تأملات في رسائل الادباء: نازك الملائكة

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

 

عندما تحيا الكلمة الجميلة في سطور رسالة تكون عذبة تلمس القلب برقة، فكيف اذا كان كاتب الرسالة أديبا أو شاعرا امتهن التعبير!
وتحتوي المكتبة الأدبية العربية والعالمية العديد من الرسائل التي ظلت باقية بعد أن رحل أصحابها، وسجّل فيها كلٌ منهم ما أراد أن يبثه من أفكار أو مشاعر للمرسل اليه، فصارت آثارا استحقت أن تأخذ مكانها بين الصنوف الأدبية. واليوم نكتب عن رسائل الشاعرة العراقية نازك الملائكة.
لم تكن غزيرة الرسائل شأنها شأن غيرها من الأدباء لكن أبرزها جمعها الباحث تيسير النجّار في كتاب “رسائل نازك الملائكة إلى الكاتب الأردني عيسى الناعوري”. ولم تكتبها بنفس إبداعي بل كانت ترى فيها وسيلة تواصل وظيفي لا يستحق النشر.
نازك الملائكة:”إنها آراء عابرة وغير منسقة، إنها كلام أو جزء من حوار بيني وبينك، وهي ليست مقالاً يستأهل النشر، وإذا أردت أن تحتفظ برسالتي فافعل، فقد يتاح لك نشرها بعد عشرين سنة، إذ كان الجمهور آنذاك سيهتم بشيء مثلها، إن انعدام الزمن وحده الذي يجعل للرسائل الشخصية قيمة.”
تلقي رسائل نازك الملائكة أضواء على حياتها، وأبرز ما تتسم به البساطة في التعبير والوضوح والتحفظ بما تمليه المراسلة الرسمية بين الأدباء والكتاب، فلا تفتح نازك قلبها على مصراعيه، وإنما تتحدث عن مشاعرها العامة بما يتعلق بآلامها خاصة بعد وفاة والدتها وما أحدثته من أثر في نفسها، وحرصها على نشر ما نظمته وفاء لها. تكتب للناعوري: “لا أدري كيف أشكر لك أيها الأخ عنايتك النبيلة بمواساتنا في الفاجعة المحزنة التي ألمت بنا، وغيرت وجه حياتنا، وتلاعبت بأحلامنا، فقد كان لرسالة التعزية التي بعثت بها إلي وقع جميل على أحزاننا الحارة، فقرأنا وشكرنا حظنا الذي يهيئ لنا مثل صداقتك في هذه الظروف.”
أيضا تعكس رسائل نازك الملائكة بوضوح اهتماماتها القومية والاجتماعية فتكتب رسالة مؤرخة في الخامس من شباط/فبراير عام 1935: “بغداد تمر بفترة انفعال شديد نادر المثيل بسبب تتويج الملك العزيز، والحق أنني لم أشهد طوال حياتي شعباً يحب ملكاً إلى هذا الحد، وقد كان منظر الجماهير الهاتفة في بغداد يوم أقسم الملك اليمين، إنه شيء تقصر اللغة عن وصفه، فقد تضاءلت إلى جانبه مظاهر الزينة التي كلفت الحكومة ثلاثة ملايين دينار، فما قيمة المهرجانات إلى جانب هذا النهر الجارف من حب جماهير الشعب.”
لكنها تلتفت إلى الواقع البائس للجماهير فتضيف في رسائلها لعيسى الناعوري: “لقد وقفت أراقب الكتل المندفعة من الناس في افتتان لا حد له، إنهم قوة هائلة لهؤلاء الجماهير، ولو ألبسناهم أحذية وكسونا أجسامهم التي خشنها البرد والحر وثقفناهم. لكن دعنا من الأحلام المؤلمة التي لا فائدة منها، ولنعد إلى الحديث عن الأدب والشعر.”
وفي رسالتها هذه نقد خفي للحكم الملكي في العراق، ولم تكن أكثر رضا عن حكم عبد الكريم قاسم الذي أيدت ثورته في بواكيرها ثم عارضته بعد أن ارتمى في أحضان الشعوبية كما تقول واضطرت إلى مغادرة وطنها في مرحلة حكمه.
وفي رسائلها اهتمام بالغ بالقضية الفلسطينية تعزز بموقف والدتها التي خصصت أكثر شعرها لخدمة فلسطين.
وفي النقد تبرز نازك بعض آرائها النقدية التي تعزز مسيرتها الأدبية، تكتب في إحدى رسائلها: “يوشك النقد المعاصر أن يكون محض اتجاهات ذاتية، ألا ترى أن المجلة التي يديرها ناقد أدبي تستطيع أن توجه النقد توجيهاً فعالاً”.
وتشير إلى أن الشعراء الرواد لم يضعوا للشعر الحر مبادئ
نظرية تضبط أصوله، فهي في دعوتها احتذت طبيعة الشعر
الإنكليزي وخصائصه إذ يعتمد المقطعية في الوزن، شأن
اعتماد الشعر الحر على التفعيلة الشعرية العروضية التي تتألف
من مقاطع. وتعبّر عن ثورتها على البيت الشعري التقليدي ذي الشطرين والقافية الواحدة بدافع التحرر من صرامة شروط هذا الشكل
الشعري الذي يقيد حرية الشاعر، ويصرفه عن حرية التعبير
بحثاً عن البنى الملائمة للوزن. وتروي تجربتها حين نظمت أول قصيدة لها في الشعر الحر بعنوان الكوليرا.
نازك الملائكة: “أحسست بأني أحتاج إلى أسلوب آخر، أعبّر به عن إحساسي… جلست حزينة لا أدري كيف أستطيع التعبير عن مأساة الكوليرا التي تلتهم المئات من الناس في مصر، وانتهيت من القصيدة التي أثارت احتجاج والدي وأمي وأختي. أما أنا فقد انطلقت في نظم الشعر الحر… ولم أنبذ شعر الشطرين كما فعل كثير من
الشعراء المندفعين الذين أحبوا الشعر الحر”.
ختاما، لاشك أن نازك الملائكة راسلت عدداً من الأدباء ممن ارتبطت بهم برابطة الصداقة والقربى ولم يتم الكشف عنها الى الآن. ولا شك أن تلك الرسائل تعد وثائق مهمة في التعريف بمراحل مختلفة من مسيرتها الحياتية والأدبية.