كوابيس شريرة وهذيان …

 

“الدنيا نيوز” – فاطمة صالح*

 

اليوم أكملَ  عامَهُ الخمسين..
لم أكن أتوقّعُ أنه سيُعَمَّرُ طويلاً، لشدّة هُزالِه..
منذ الإرهاصات الأولى لقدومه، وأنا أنفرُ منه..
فرحَ الجميعُ بقدومهِ، وتفاءلوا، والبعضُ   أكلهُ الحَسَد.. إلاّ أنا، لم أكن راغبة بهِ، ولم يعجبني شكله. كنتُ أتصنّعُ الفرحَ، كي أجاري الآخرين، وألاّ أكون نشازاً، وأكبتُ مشاعري الحقيقية تجاهه.
كان، أيضاً، يوم خميس، قبل نصف قرن..
خلال عمره الذي طال، وفي منفاي القسريّ، أذاقني ظله الثقيل، من الكوابيس، ما كاد يقتلني..
مرةً، رأيتُ امرأةً متلاشيةً، تشهقُ  كطفلةٍ سَرَقوا أمّها منها عنوَةً، ولم يبقَ لها حضنٌ يحميها، في قفرٍ موحِشٍ، مُرعِب. وهيكلاً يشبهُ الآدَميَّ يسخرُ منها ويهدّدها ويتوَعّدها. صَفقَ البابَ خلفهُ، بعدَ أن دَفعَها إلى الداخل، وترَكها وحيدةً مع وحوشِ  الذاكرة، تصارعهم، ويصرعونها كل لحظة مليون مرة..
ومرةً كدتُ أنسحقُ  وأنا أرى امرأةً تتلوّى على أرضِ  المطبخ، ورجُلٌ غاضِبٌ يركلها بقدَمهِ عدّةَ رَكلاتٍ، ويهَدّدُها بصوتٍ مُرعِبٍ، أنه سيتركها وحدها في ذلك الفراغ، حتى لو ماتت، لن ينقذَها.
وفي مكانٍ آخرَ، رأيتُهُ يصفقُ البابَ دونهُ، وهي في الخارِج، ترتجفُ خوفاً وبَرداً، ويبتعدُ، دون أن يوليها حتى نظرة.. هُرِعتْ نحو البابِ تدقّهُ بعُنفٍ، وتحاولُ  فتحهُ. وأعظمُ أمنيةٍ عندها أن تدخلَ  وتتناوَلَ  حبةً أو أكثر من المُهدّئات العصبية ومضادّات التشنج، وتدخل الحمّام، ثم تستريحُ على الفراش أو الأريكةِ، تغطي نفسها بأي شيءٍ تلتمسُ  منه بعضَ الدفءِ، لكن، دون جدوى…
فأنتفضُ   هَلَعاً، وأتمثّلُ  الحالةَ، فأشعر بالإختناق..
كلّ  الكوابيس كانت صعبة، ومن أصعبها، حين رأيتُ المرأةَ ذاتها تتقلّبُ في فراشها على سريرٍ متهالكٍ  صغير، في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل، متوجّسةً من كل شيء، وعندما اقتربَ الليلُ  من منتصفه، هاهي تسمع أحداً يمشي داخل منزلها المنعزل، معقول.؟! هي لم تسمع صوت فتح البابِ الخارجيّ.. لكن.. لكن أكيد هناك شخصٌ   يتحرّك في الغرفة القريبة من الباب الخارجيّ.. يا وَيلي..! تصرخُ  في داخلها، كيف تتخلّص من ذلك المأزقِ الرهيب..؟! من الذي دخل المنزل في هذا الوقت..؟! وكيف دخل دون أن يفتح الباب..؟! بسم الله الرحمن الرحيم.. هجَسَ قلبُها الذي يطرقُ أضلاعَها ، يكاد يخرج من صدرها، ساقاها لم تعودا تقويان على حَملِ جسمها الهزيل..
حافيةً تقدّمتْ  نحو الباب الخارجيّ، لتخرجَ منه بسرعةٍ بالغة، قبل أن يدهمها ذلك الشخص الغريب.. وقبلَ أن تصلَ إلى الباب الخارجي بخطوة، فُتِحَ بابُ الغرفة المُخيفة، صرخت بأعلى صوتها ومن أعماق الروح: يا ويلي..! يا وَيلي…! وظنت أنه قد قُضيَ عليها، لكنّ الرجلَ الذي كان ما يزال يكمل ارتداءَ منامَته، صَرَخَ في وجهها مُعَنِّفاً: اضربيني.. اضربيني..! كادتْ  تسقطُ قهراً عندما أدركت أنه زوجُها، وقد عادَ من سَهرهِ الطويل. مشتْ نحوَ غرفةِ نومِها، كان بابُها ما يزال مفتوحاً، بيدينِ مرتعشتين، فتحت حقيبتها، وأخرجت حبتين من المهدئات العصبية، وحبة من مضادّات التشنّج، تناولتها مع قدر من الماء، واستلقت محاولةٍ أن تهدأ وتنام، ودموعها الحارقة تبلّلُ الوسادة..
الطقسُ  شتاء، والبردُ قارِس، العواصفُ تهبُّ حتى تكاد تقتلعُ الشجرَ من حولِ منزلها البعيد، وهيَ ترتجفُ تكاد تتجمّدُ. تنهضُ  من تحت اللحافِ، وتدخلُ  الحمّام، إنها تعاني من آلامِ المَفاصِلِ، وخَدَر ساقيها المُزمن، خصوصاً عندما تجلس القرفصاء، أمسَكَت بصنبور الحَمّام، تستعين به على النهوض، خرَجَ الصنبورُ من الحائطِ، واندفعَ الماءُ المثلّجُ منه على صَدرها وكامل جسمها من الأمام والجانبين، أخذت تشهقُ من البرودةِ والخوف، ياويلي، كيف أتصرّف، في هذا الطقس العاصِف.؟! وأنا أعاني من اضطرابات هضمية وغيرها نتيجة البردِ الشديد.. يا ويلي.. كيف أمنع الماءَ من النفاد من الخزّان.؟! سوف لن يأتي دورُنا في توزيع الماء على البيوت قبلَ أسبوعٍ آخر..!! حملتْ ثيابها الطويلةَ الثقيلة السميكة، وغامَرتْ بالخروج تحت جناح ذلك الليل الصقيعي، صعدتْ سلالمَ السطح، واتجهت نحو مفتاح الماء الذي يغذي البيت، أغلقته، وهي متجمّدة، لم تفكّر بالخوف من الظلام، خافت من ازدياد توعّكها الجسديّ  والنفسي، نزلت ودخلت المنزل، شعرت ببعضِ  السكينة لتوقّفِ تدفّقِ الماء..
استيقظتُ مُرتعبة، صرَختُ، وانتفضتُ جالسة، كيف ستبدّل ثيابها بأخرى جافّة وسميكة.؟! مَن سيوقدُ لها المدفأة لتحصل على بعضِ الدفء..؟! مَن سيردّ عليها الغطاءَ الصوفيّ، ويُشعِرها بالأمان..؟! استعَذتُ بالله من شياطين الجنّ والإنس، وسَمّيتُ باسم الله الرحمن الرحيم.. ازدادَ حقدي على ذلك الكائنِ الدخيل الذي سبّبَ لي ما أعاني، وكما يحصلُ معي بعد كلّ  كابوس، لم أستطع العودةَ إلى النوم..
(- يكفي سَردَ كوابيسك، لقد أتعَبتِنا بهذياناتكِ، أيتها المريضةُ النفسية. أغلقي بابَ تعاستكِ، وأريحينا. فلا ينقصنا خوفٌ ولا هَلَع.. ليتكِ  قتلتِ ذلكَ الوغد، قبل أن يدخل حياتكِ، وارتحتِ، وأرحتينا..!! )
منذ عقود تكاثرتْ عليهِ العلَل، وما من دواء يفيد، رغم محاولاتٍ كثيرةٍ لاستعادةِ (عافيته) أغلب الناس لم يكونوا ليصدّقوا أنه مريض، فكلّ  علامات العافية تظهرُ عليه. لم يكونوا يرون الحقيقة، أم أنهم لا يريدون معرفتها، أم أنها لاتهمّ أغلبهم. وحدي كنت أعرف المأساة، وأعاني من الكوابيس التي تسببها، وكنتُ  أخبر المهتمّين، دون أن يصدّقوا، وكان كلّما تقدّم في السنّ، تزدادُ علَله، ويهترئ هيكله، حتى سقط منذ حوالي عشرين عاماً، مغشياً عليه، ليكتشفوا أنه مشلولٌ  شَلَلاً كلّياً. صُدمَ أغلبهم، إذ لم يعد هنالك مجالٌ لتحسّن حالته، لم تنفع معه أسطوانات الأوكسجين، ولا كميات الدم التي أدخلوها في عروقه المهترئة، ، دخلَ في مرحلةِ (الموتِ السريري). فتخلّى عنه الجميع، وتركوني وحدي أعتني به، قالوا أنني الوحيدة القادرة على القيام بذلك. لم يدركوا مدى مُعاناتي معه، أو أنها لاتهمهم، فلدى كلّ منهم مايكفيه من الهموم الخاصة والعامة. صحيح أنني لم أرغب به، يوماً، لكنّ واجبي يستدعي الإهتمام به قدرَ الإمكان. وعندما تأكّدتُ أنني لم أعد قادرة على أن أقدّم له أيةَ خدمة، وأن الأطباء أجمعوا أن لافائدة من العناية به، فلم يعد يحسّ  أو يعي، ولم يعُد به أي أثرٍ للحياة، سوى بعضُ   نبضٍ  واهنٍ جداً، أهمَلته، فقد تأثّرت صحتي النفسية والجسدية من معاناتي معه.. حاوَلتُ أن أتخلّصَ   منه، وأن أخلّصه من مأساته، على شكل (الموتِ الرحيم )، ثم عَدَلتُ عن ذلك، وتركت لربّه وحده التكفّلَ به، وحاولتُ الإهتمام بنفسي، التي لها عليّ حقّ، والمحافظة على ما تبقى لي من طاقة تساعدني على الإستمرار في هذه (الحياة ). جعلتُ نفسي أول اهتمامي، وصرتُ أغذيها مادياً ومعنوياً، فانتعَشتْ قليلاً، ثم أكثر، وها هيَ الآن تلَملِمُ بعضها، ورغمَ العطب الذي حَلّ  بها، راحت تهَلّلُ  للحياة..
—————————
المريقب/ أيلول/ 2020م