ساعي البريد كان صديق كل أديب..وضالَّة كل غريب..ومحب أرقه البعد..عن الوطن والحبيب

 

الدنيا نيوز -دانيا يوسف

منذ أن ظهر البريد الإلكتروني، والاتكال عليه يزداد يوماً بعد يوم. والملايين الذين كانوا يخطُّون رسائلهم على الورق ويتوجَّهون إلى مكتب البريد لإرسالها أملاً في وصولها إلى وجهتها بعد عشرة أيام، علَّهم يحظون بجواب بعد عشرين يوماً، صاروا يرسلون رسائلهم من غرفة نومهم إلى أصقاع الأرض المختلفة، ليحصلوا على الأجوبة بعد دقائق. ولكن هل يعني ذلك موت البريد التقليدي؟
الجواب الذي قد يفاجئ الكثيرين هو أن البريد التقليدي لا يزال ينمو ويتطور. “فالبريد الملكي” في إنجلترا مثلاً يوزع 84 مليون رسالة يومياً وبلغت عوائده السنوية 9056 مليار جنيه استرليني في العام 2006.
أول بريد سريع:الحمام الزاجل
كان الإغريق أول من استخدم الحمام الزاجل في مراسلاتهم، وانتبهوا إلى وظيفته في المجتمع. فمن خلاله تم نقل نتائج الألعاب الأولمبية من مكان إقامتها إلى المدن البعيدة ليتسنى للمواطنين معرفة أخبار الرياضة المحببة إليهم. لكن أول استخدام عسكري للحمام الزاجل، حسب المصادر التاريخية، كان في زمن الإمبراطور الروماني أوكتافيوس الثالث، الذي استخدم هذا النوع من الحمام لتبادل الأخبار والخطط العسكرية مع قائد جيشه بروتس الذي حاصرته قوات مارك أنطوني في مدينة “فودليا”، وهو بروتس نفسه الذي خلده الكاتب الشهير وليم شكسبير في مسرحيته ذائعة الصيت يوليوس قيصر.
ولم يقتصر استخدام الحمام الزاجل على الإغريق فقط، فقد استخدمه الفراعنة والفرس والعرب أيضاً، وكل حسب حاجته وحسب مصلحة بلاده العليا.
الرسالة في الأدب:
يمكن الجزم بسهولة أن العرب كانوا أول من ارتقى بالرسالة إلى مستوى الأدب وحتى الفلسفة. وقد اشتهر عدداً من كبار الأدباء منهم عبد الحميد الكاتب الذي عرف بالبراعة في فن كتابة الرسائل حتى غدت رسائله مضرب مثل في الإتقان وقيل “بُدئت الكتابة بعبدالحميد”.
وفي الدولة العباسية لمع عدد من أسماء الكتاب الذين أبدعوا في فن التراسل. نذكر منهم يحيى بن خالد البرمكي وابنه جعفر، وأحمد بن يوسف الكاتب، والصاحب بن عباد وضياء الدين ابن الأثير وغيرهم.
وقد تطور فن الرسائل وتوسع مفهومه حتى ابتعد عن أصله، أي عن كونه نصاً موجهاً إلى جهة محددة. ومن الأمثلة على ذلك “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، وهي رحلة خيالية كتبها�أبو العلاء رداً على رسالة وجهها إليه علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح يسأله فيها عن جملة من الأمور تتصل بالتاريخ والفقه والتصوف والأدب والنحو وغير ذلك.
وفي العصر الحديث، اشتهرت الرسائل الأدبية التي جمعت في كتب أو نشرت من خلال الصحف والمجلات نذكر ابرزها: رسائل جبران خليل جبران الى مي زيادة، رسائل أمين الريحاني، رسائل بدوي الجبل، رسائل عباس محمود العقاد، رسائل بدر شاكر السياب، رسائل الأديب عمر فاخوري، رسائل طه حسين ومعاصروه، رسائل الشاعر إبراهيم طوقان إلى شقيقته فدوى وغيرها الكثير من الرسائل لا سبيل لحصرها.
في الأدب الغربي:
وتؤلف رسائل أدباء الغرب ثروة ضخمة من أدبهم. وتعتبر رسائل فلوبير إضافة إلى رسائل فولتير، الأكثر شهرة بين نتاجات هذا النوع من الكتابة في فرنسا. بل ثمة من يفضل رسائل فلوبير على أعماله الأدبية لما تتضمنه من حميمية وحيوية تضعها في مكان يسمو كثيراً على معظم أعماله الأدبية. ونذكر في هذا الاطار رسائل الزعيم الهندي “جواهر لال نهرو” الى ابنته أنديرا والتي ترينا ألوانا جميلة من حياة الهند وهي الرسائل التي كتبها في السجن ونشرت تحت عنوان “لمحات من تاريخ العالم” وهي على جانب عظيم من القيمة الفكرية.
وهناك عشرات المفكرين والأدباء الذين جمعت رسائلهم في كتب، نظراً لأهمية محتوى هذه الرسائل. ومن هؤلاء نذكر على سبيل المثال الكاتب الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو والمفكر الفرنسي مونتسكيو.
ساعي البريد في الأدب والفنون:
حظيت شخصية ساعي البريد باهتمام كبير من الأدباء والفنانين. حتى صار بطلاً للكثير من القصص والروايات والقصائد والأفلام السينمائية.
ولعل فيلم “البوسطجي” المأخوذ عن رواية الكاتب المصري يحيى حقي، نجح في تناول جانب مسكوت عنه في حياة هذه الشريحة من الموظفين، حين سمح هذا الرجل لنفسه بالتجسس على أخبار الناس من خلال قراءة رسائلهم، والتعرف إلى كثير من أسرار القرية.
أما أشهر فيلم في السينما الغربية حول ساعي البريد فهو فيلم “إلبوستينو” المقتبس عن رواية تدور حول إقامة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1970 في جزيرة “إيسلا نيغرا” في التشيلي. يروي هذا الفلم قصة شاب إيطالي يُدعى ماريو تمرَّد على مهنة أبيه العامل في صيد السمك، وقرر أن يصبح ساعي بريد، يسلِّم الرسائل إلى شخص واحد مقيم على الجزيرة، هو الشاعر نيرودا المنفي من بلاده لأسباب سياسية. ويستعرض الفيلم في إطار الصداقة التي تجمع الاثنين الكثير من الجوانب الأدبية والسياسية والاجتماعية وصولاً إلى زواج ماريو ومن ثم مقتله في تجمع سياسي، وعودة نيرودا إلى التشيلي، ومن ثم رجوعه إلى الجزيرة سائحاً ليستلم شريط تسجيل تركه له صديقه الراحل وعليه أصوات الجزيرة وحتى صوت اغتياله في التجمع.
ساعي البريد في الشعر:
ساعي البريد كان صديق كل اديب وضالة كل غريب ومحبٌ أرقه البُعد عن الوطن والحبيب، وها هو نزار قباني يختصه بالحديث فيوجه إليه تساؤلاته فيقول في قصيدته الرائعة “ساعي البريد”:
خطواته
في أرض شارعنا
حديث مستطاب
يا أنت..
يا ساعي البريد..
ببابنا، هل من خطاب؟
ويقهقه الرجل العجوز
ويختفي بين الشعَاب
ماذا يقول؟ يقول:
ليس لسيدي إلا التراب
إلا حروف من ضباب