“الصبَّار” رواية سحر خليفة التي صورت كيف تتحول العمالة الفلسطينية في الصناعات الصهيونية الى خيانة

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

تعنى رواية سحر خليفة “الصبار ” الصادرة عام ١٩٧٨ بالحياة اليومية لعرب الضّفة الغربية بعد خمس سنوات من هزيمة حزيران التي مكّنت
الاحتلال من ابتلاع ما تبّقى من أرض فلسطين. كما تصور شظف الواقع الذي يعانونه وتدافع عنهم وعن سواهم من فلسطينيي الداخل الذين يصفهم
فلسطينيو الشتات وقياداتهم السياسية بالتخّلف عن الركب الّثوري وبالاندماج في المجتمع الجديد الذي أفرزته الهزيمة حتى أنوفهم، وتسوغ انصراف أولئك عن قضيتهم الوطنية بالضّغوط القاسية التي يعانونها. أسألها عن روايتها فتجيب:
سحر خليفة: “تتتبع روايتي حياة أسرة إقطاعية غارقة في وهم المكانة التي كانت تتمتع بها قبل الاحتلال ومنقسمة خلاله بين ثلاثة اتجاهات: الأب الذي يمّثل تفسخ الطبقة الإقطاعية الفلسطينية وتعلّقها بما تدعي إنجازه من فعل في حركة النضال الوطني، والابن الأكبر عادل الكرمي الذي يهجر مزرعة الأسرة إلى العمل في المصانع الصهيونية، بدعوى أن “للصورة أكثر من بعد واحد”،
وليست مسألة وطن أو قضية، ثم الشابان باسل الكرمي وأخته نوار اللذان
يحاولان التمرد على انتمائهما الطبقي: الأول بانخراطه في صفوف المناهضين
للاحتلال، والثانية بحبها لصالح، شقيق صديقتها لينة، المعتقل بسبب انتمائه الثوري.”
اذا ما يميز هذه الرواية تقديمها لثلاثة نماذج: الفلسطيني المؤمن بأرضه وبقدرتها على الّنهوض من الرماد لمواجهة مغتصبها، وثانيا الفلسطيني الذي ذوبه الاحتلال في أتون المعيشي اليومي بعيدا عن الأرض وقضيتها، وثالثا الفلسطيني الجاحد بهذه الأرض، واللاهث وراء ما هو خاص به فحسب.
سحر خليفة: “يتجّلى النموذج الأول في روايتي من خلال بطلها “أسامة الكرمي”، الشاب المثّقف العائد إلى وطنه فلسطين بعد خمس سنوات من اغترابه عنه بمهمة كان تنظيمه السياسي المقيم خارج الأرض المحتّلة قد كلّفه بها. والرواية تفصح عن علاقة أسامة بالأرض، وبوطنه عامة، من الصفحات الأولى فيها، أي مع وصول أسامة إلى مدينة نابلس التي حاول أحد الجنود الصهاينة، عند مشارفها، تغيير أسمها العربي إلى آخر عبري، فتكون بينهما هذه الحوارية:” ولماذا انتقلت أمك إلى شخيم؟ تعجبها نابلس. ولماذا تعجبها شخيم ؟ تعجبها نابلس لأنها مليئة بالأقارب. وماذا ستعمل في شخيم؟ سأبحث في نابلس عن وظيفة”.
بعد هذه المواجهة يدخل الضفة التي كانت في خياله غير الذي وجدها به على ارض الواقع.
سحر خليفة:” لأول مرة يدخل الضفة بعد غياب خمس، وكان اللقاء غير ما صوّره خياله، وأبدع في تزويقه وتنسيقه، كان يحس بأن الضفة قد باتت بحجم القمقم، وإن روحه التي ما فتئت تهيم في سموات الشوق والحنان قد سقطت من سابع سما. وبالرغم من خيالاته العاشقة المحمومة التي عايشها طوال سنوات طويلة جديبة محرومة، وأحلامه التي تنقله كل ليلة إلى الجسر وما وراء الجسر، وإلى اللوحات السماوية المفروشة على امتداد الوهاد والوديان، والشلال باللوز المكدس على البسطة أمام الشلال تحت أشجار الجوز الباسقة-كل ذلك قد انمحى-ولم يبقى في ذاكرته إلا هلوسات وكلمات تتردد بإطناب ورتابة.. البترول. سوريا. ماجستير. الولد مات. ولم الشمل. بقالة الوفاء. لشبونة. المسامح. كريم. يا كلاب. يا كلاب. وتلفت حواليه، وهو يمتطي السيارة كانت الجنة تحت أقدامه وأمام عينيه، ولكنه بات سجين القمقم”.
ولم تكن تلك المواجهة مع الجندي الصهيوني، التي تمسك فيها أسامة
بانتماء نابلس إلى جذرها العربي الذي عرفته منذ أقدم حقب التاريخ الإنساني،
الفاتحة الوحيدة التي أكدت علاقته المخلصة بوطنه فحسب، بل إن الأرض
نفسها، أيضا، التي جرّدها الاحتلال الصهيوني من الأغطية الخضراء، والتي
أخذت تشغل مساحة الرؤية كّلها في عينيه، كانت تستنفر توقه العارم إلى تنفيذ المهمة الموكلة إليه.
سحر خليفة:”صحيح. وعلى الرغم من رفضه اقتراح أمه العمل مزارعا كأبيه
الذي جعل من الأرض جنة، فإن ذلك الرفض كان له ما يسوغه، بل ما
يعزز صلته بالأرض على نحو آخر كان قد اختاره لنفسه، وأصر على تنفيذه،
أي: استنهاض الحس الوطني الّذابل في الشعب المستكين لما هو معيشي، أّنه
كان يثق بأن الأرض التي أنجبت أسلاف هؤلاء اللاهثين وراء خاصهم فقط لن
تضن بحبها المعتاد لهم، و”سيظل فيها أناس يؤمنون بالمستحيل”.وقد دفعه إيمانه هذا بالأرض، وبقدرة شعبه على التطهر من حال الذوبان في اليومي وال طارئ، إلى قتل أحد الضباط الصهاينة، وكانت الأرض وحدها ملاذه عن العيون التي لاحقته، حيث و جد نفسه، دون إرادة منه، بين أحضانها وهو يعبر لها عن اشتياقه وفرحه العارم بلقائه: “فأنا هنا. وقد عدت. لهذي الصخرة. لهذي الحفرة.. فلتهتز الأرض لوقع قدمي إذا مشيت”.
كانت “الصبار” من أوائل الروايات التي سلطت الضوء على ظاهرة العمال الذين التحقوا بالصناعة الإسرائيلية وارتضوا أن يكونوا جزءا من آلتها. ورغم شهرة الرواية وما حققته من نجاح، إلا أن بعض النقاد هاجمها بشدة واعتبرها رواية سيئة ولا ترقى إلى مستوى الأدب؟
سحر خليفة:” بل كانت الرواية الأولى التي تجرأت وكتبت بشفافية وصدق مطلق عن هذه الظاهرة الحساسة. ما حفزني لكتابتها كان ما قرأته للكاتب والصحفي المصري الشهير في ذاك الوقت أحمد بهاء الدين. كنت في مصر وقرأت مقالته فاستثرت. قال ما معناه أن الفلسطينيين يرتكبون الخيانة والعمالة بعملهم في الصناعة الإسرائيلية. عمالة وخيانة، هذا ما قال، فصدمت وجرحت وصممت على رصد الظاهرة بأبعادها المباشرة وغير المباشرة. كنت أعرف أن الخوض في ذاك الموضوع له مخاطر على المستويين الفلسطيني والإسرائيلي، لكني جازفت. على المستوى الوطني الفلسطيني كانت كل التنظيمات الفلسطينية، بما فيها اليسارية، تعاقب العمال وتضربهم بالعصي والكرابيج حين تضبطهم وهم في طريقهم الى العمل في إسرائيل. توقف باصاتهم الذاهبة غربا نحو المصانع الإسرائيلية، توقفهم في منتصف الطريق أو في أولها، وتضربهم ضربا جسديا حقيقيا، ثم تفجر باصاتهم وتعيدهم مشيا الى مدنهم ومخيماتهم وقراهم. هذا معروف، وليس سرا، هذا ما كان يحدث في الواقع. لكن مقالة أحمد بهاء الدين، جعلتني أفتح عيني لما في أقواله وردود فعل تنظيماتنا من عدم فهم وخلل في التحليل والتفسير. جازفت، ونزلت مع العمال في باصاتهم الصباحية، واشتغلت معهم، وذقت مرارتهم وكتبت، فكان رد الفعل مدوٍ على المستويين السياسي والأدبي.”
ترجمت رواية “الصبّار” الى العبرية والفرنسية و لألمانية والهولندية والإيطالية والأسبانية والماليزية والإنجليزية. كما حازت سحر خليفة تقديرات عالمية عدّة، من “مورافيا” إلى “ثرفانتس”. أما عربيا فقد فازت بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، عن روايتها “صورة وأيقونة وعهد قديم” التي تحكي فيها ضياع القدس.