محمد علي الحوماني .. محطات في حياة شاعر الاصلاح والثورة الذي بقي مغموراً

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

شاعر الاصلاح والثورة محمد علي الحوماني… من ديوان “فلان” الى “نقد السائس والمسوس” فكر يطال كل زمن وأزماته السياسية والاجتماعية
عندما يريد الباحث أن يكتب عنه يحار من أين يبدأ… فمنذ رحيله والصمت يلفّه ويلّف ايامه ولم يعد ينطق باسمه الا بعض المخطوطات من مؤلفاته والبقية ممن عاصره من الأهل والأصدقاء.
انه الشاعر والأديب العاملي محمد علي الحوماني … وصف بالرحالة والخطيب والأديب البارع… كانت له في البلاد العربية منزلة علمية وأدبية وسياسية دفعت القراء لأن يقيموا له وزنا ويحسبوا لأقواله حسابا… أنجب الى الحياة عائلة من الأدباء والعلماء بعضهم رحل عن هذه الحياة والبقية يغلّفهم الاهمال والنسيان شأنهم شأن والدهم… فمن هو الحوماني يا ترى؟
أبصر محمد علي الحوماني النور عام 1896 في حاروف قضاء النبطية. عاش في كنف أب جليل وأخ فقيه، فتتلمذ عليهما وعنهما أخذ مبادئ الخط والقراءة. ثم أدخل كتّاب القرية حيث قرأ جزء عمّ. نما في جو أدبي وديني فكان رجال الفكر والدين يجتمعون في منزل العائلة ويعقدون الحلقات لمناقشة القضايا الدينية والأدبية.
نشأ مولعا بالشعر منذ نعومة أظفاره وهو يتحدث عن طفولته بقوله: “كنت وأنا في دور الصبا لم تتجاوز سني العاشرة ، أختلف مع أخوي وأبي إلى مجالس أدبية تعقد أيام الربيع في المنتزهات وفي ليالي الشتاء في النوادي ، لا أنس لهم بغير إنشاد الشعر…”
وقد ذكر الشاعر هذه المنتزهات في قصيدة ” جمال الذكرى ” التي نظمها في 5 آب\اغسطس 1953 أثناء إقامته في مصر ونشرها في ديوانه “أنت أنت”:
“أو أسلو حاروف أغرودتي الأولى وملهى لداتى الأتراب؟
كيف أنسى ضهر البيادر والبياض فيها وحوطة الألعاب؟
يوم كنا نروح بالنرجس الضاحي ونغدو به على الكتّاب”.
دخل الحوماني المدرسة الحميدية في النبطية فدرس “ألفية ابن مالك”. وفي تلك المدرسة كانت باكورة شعره وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره.
بعدها أخذ الفتى يتردد على العلّامة السيد محسن الأمين في شقرا ليدرس عليه علوم اللسان وبعض نظريات المنطق. وفي العام 1922، طلب العلم في النجف ودرس بعض مبادئ الفقه والأصول والبيان والمنطق.
بيد أنه ترك الدراسة هناك بعد سنتين ودخل الجامعة العلمية في دمشق حيث نال شهادة ثانوية خوّلته الدخول الى جامعة لندن لدراسة الأدب الانكليزي. الا انه بعد أشهر من دخوله احدى كلياتها اضطر للعودة الى الوطن لمشاكل صحية.
يمكن القول أن حياة محمد علي الحوماني كانت مزدحمة بالنشاطات المتنوعة والتي تركت كل منها بصمات واضحة في حياته وأدبه.
بدأ حياته بممارسة مهنة التدريس في مدرسة قريته بادئ ذي بدء ومن ثم في مدرسة قرية شقرا، وبعدها في المدرسة الأميرية في النبطية. كما تولّى تدريس مادة الأدب العربي في “كلية التربية والتعليم” في طرابلس الشام. وفي الخارج، تولّى التدريس في كل من اربد والسلط في الأردن، كما في الجامعة العلمية في دمشق.
بعد التدريس عمل الحوماني في مجال الصحافة، فأسّس مجلة “العروبة” عام 1935 وجعلها منبرا لبثّ آرائه واعلان مواقفه. كما عمل مع بعض المفكرين على اصدار مجلة “الأمالي” وبعدها مجلة “مع الناس” عام 1947. وكثيرة هي الصحف اللبنانية والعربية التي نعمت بقصائده ومقالاته. وكانت للحوماني مع السياسة صولات وجولات، ومع المجتمع شؤون وشجون حتى غدت أمور السياسة والمجتمع جزءا من روحه وخاطره.
فالواقع العاملي خاصة واللبناني والعربي عامة، كان حافلا بالمآسي والأحداث التي شغلت الكثير من الأدباء والمفكرين وشكّلت تربة خصبة يستمدون منها موضوعاتهم.
ولعلّ الحوماني الصحفي والأديب والشاعر، كان في طليعة من ثاروا على واقعهم الأليم. بل لعلّه كان من أجرأ الذين وقفوا في وجه الظلم والتسلط والقهر، والذين عرفوا مكمن العلّة والداء.
ولعلّ ديوان “فلان” الصادر عام 1945 شكّل ثورة حقيقية على مجمل النظام السياسي القائم آنذاك…
واذا كان الحوماني قد اتخذ القلم وسيلة لحملته ضد الاقطاع، فقد كان لهذا الاقطاع أسلوب آخر في الرد فتعرّض لاعتداء في مدينة صيدا على أيدي مجموعة من رجال الاقطاع الذين أوسعوه ضربا بالعصي.
وجّه الحوماني بعد هذه الحادثة برقية الى المفوض السامي الفرنسي الكونت دي مارتيل ومما جاء فيها:”لا تحسب يا سيدي الكونت أن في بلادك فقط شعبا حياّ يمعن في تنمية أدمغة رجاله للتفكير، وتنمية أناملهم للتحرير. ففي بلادنا الآمنة بوجودكم فيها أيضا شعب يجتهد في تنمية أدمغة رجاله واناملهم…ان أدمغة مفكري قومك واناملهم تتضخم ببطء وخلال عشرات السنين تحت سماء الثقافة العالمية الحرة، وأما ادمغتنا واناملنا فتتضخّم بسرعة فائقة…تحت العصي والنبابيت…”
وقد لاقى هذا الحادث استحسانا عند بعض المفكرين والأدباء امثال مارون عبود والياس أبو شبكة. فقد بعث اليه الأول قائلا:”آلمني جرحك وعزّاني أنه نبيل، ففي سبيل الاصلاح والتهذيب دمك المهراق، ليكن النبي مثلك الأعلى، وحسبك الامام الشهيد قدوة… شفى الله المعتدين من مرضهم المزمن، وأنت سليم معافى، يقويك الاضطهاد، ويجعل قلمك حديدا لا يلين…”
أما ابو شبكة فقد استنكر الحادث باسلوب طريف: “في حين كانت الأقلام تستنكر الاعتداء عليك بالأساليب التقليدية، كنت اصغي الى أصوات فرح وابتهاج تتصاعد من اعماق نفسي…لأن المكروه الذي حلّ بك حمل اليّ بشرى…فقد أيقنت خيرا أننا اصبحنا في عهد العصا، اذن في المراحل الأخيرة من مراحل الاقطاعية…”
وكان ثمن اصداره ديوان “فلان” أن ابعد الشاعر سنوات عن ارض الوطن فاستقر في العراق أولا ثم انتقل الى مصر ومكث فيها عشر سنوات متتاليات.
عندما استقر الحوماني في القاهرة أسّس ندوة أدبية كانت تعقد أسبوعيا سماها “الأصفياء”. وكان أعضاؤها ينشدون الشعر أو يلقون أبحاثا في السياسة والاجتماع. وقد جمع الحوماني ما دار في هذه الندوة من مناقشات ومحاضرات بين دفتي كتاب سماه “الأصفياء”.
ويمضي الحوماني في ثورته خارج الوطن اللبناني ليتصدّى للقضايا الكبرى في الوطن اللبناني وهي يومئذ ثلاث:الاستعمار،الوحدة العربية وقضية فسطين.
اتخذت ثورة الحوماني وجها قوميا اذ كان يرى الهدف واحدا والمستعمر واحدا سواء كان فرنسيا أو انكليزيا أو تركيا أو صهيونيا، فقد حاربه على أنه وجوه مختلفة لعملة واحدة. وكان شعره حاضرا في كل مناسبة.
ومن خلال رحلاته اخترق القارات وعبر المحيطات فزار اوروبا وأفريقيا وأميركا والصين والهند، كما زار العراق مرارا. وقد تركت رحلاته في نفسه انطباعات وخواطر عبّر عنها في كتاباته بأسلوب جميل.
أما في الجانب الاجتماعي، فقد اتخذ الحوماني منهجا اصلاحيا. وكما تصدّى للمسؤول السياسي، فانه التفت الى الشعب أيضا يحمّله قسطا من تبعات ما آلت اليه حاله، ومن هنا جاءت تسميته لأحد دواوينه “نقد السائس والمسوس”.
ويحاول الشاعر ان ينبّه ذلك “المسوس” ويبث في نفسه روح الوعي وروح الارادة والعزيمة وينتشله مما يتخبط فيه من الجهل والأمية والفساد. فيقول:
“فأنت اذا جئت دار العلوم رأيت الجهالة عنوانها
وكيف تنير وكف السياسة أودت بمن شاد بنيانها”
وفي موضع آخر يضيف:
“إذا ما احتفت برجال العلوم بلاد فبشّر بعمرانها
وإن خذلت أمة ساهرا عليها،فانذر بخذلانها”
واجه محمد علي الحوماني النقد في حياته بسبب مواقفه الجريئة حينا وبسبب رحلاته وتجواله بين الأقطار العربية واتصاله بالقادة السياسيين… لكن لا يخفى على أي باحث في حياته أن يلمس حجم الفقر الذي عاناه في حياته وأورثه لعائلته… القاصة بلقيس الحوماني كريمته وشقيقتها الأديبة أميرة اللتان فارقتا الحياة عاشتا في منزل العائلة المكوّن من غرفة واحدة جدرانها متصدّعة وتنتشر فيها رفوفا تتوزع عليها الكتب بشكل فوضوي… مئات المؤلفات للراحلتين اضافة الى مخطوطات للحوماني موجودة داخل صناديق يأكلها الغبار وهي عرضة للتلف بسبب عامل الزمن ولا يوجد من ينتشلها من التلف الذي قد يلحق بها.
رحل الشاعر عن هذه الحياة عام 1964 بعد حياة مليئة بالتجارب والتحديات والابداع والخيال الخصب… وقد ترك ما يناهز العشرين مؤلفا أبرزها في الشعر:ديوان الحوماني-نقد السائس والمسوس-القنابل-حواء-فلان-النخيل-أنت أنت ومعلقات العصر.
أما في النثر فهناك: وحي الرافدين-بين النهرين-مع الناس-بلاسم-الأصفياء-دين وتمدين-في باريس وقصص أخرى.
عدا المقالات والخطب التي ألقاها في المؤتمرات وبعض القصص والمخطوطات التي لم تنشر ومنها “أشقى الناس” وفيه يسرد سيرته الذاتية، أربعون محاضرة في الأدب العربي والدرر المنضدة في النحو والشعر.
يعتبر التراث الذي تركه الحوماني ذخيرة نفيسة للباحثين لكنه يحتاج الى من يهتم بها ويوضح مضامينها وأبعادها ويخرجها الى عالم النور اخراجا جيدا وطباعة أنيقة متقنة.
تلك محطات من سيرة الأديب والشاعر محمد علي الحوماني وما رافق حياته من كفاح مرير ومواجهة جريئة لحسّاده ومنتقديه… نذر حياته لبث الوعي في الأمة ورفد المكتبة العربية بآثار فكرية قيّمة.
قال فيه أمير البيان شكيب ارسلان:”نهنأ بما أتاك الله من قريحة عاملية وشعر عذب رائق وبيان يجمع بين أبدع الخيالات وأصدق الحقائق”.
وعبد الرحمن شهبندر احد قادة الثورة السورية وصفه بالقول:”غني عن القول أن السيد الحوماني بما له من القصائد الغر الصادرة من أعماق النفس، والكلمات البليغة الرافلة بأثواب الشعور لم تحبك أوراقا بين جلدين يدعوها ديوانا، بل ألّف ركنا في بناء المجد العربي الباذخ. انه أحد الملهمين الذين يوحون الى الشعب أصول العقيدة بالنفس والايمان بالوطن…”

—————-