سقوط العولمة وآفاق الصراع في أوكرانيا

د. زياد منصور*

يبدو الحديث عن العالم كقرية كونية، أو ما يسمى بالعولمة والذي عرفناه بكل تناقضاته الفعلية رغم أنه ساد كنظام اقتصادي له ميكانيزماته الخاصة في طريقه إلى الزوال، وهذا العالم ينقسم إلى أجزاء متناثرة وسيبقى كذلك لفترة طويلة كما تتضح أمامناالصورة، كما الأمر عليه في زمن الحرب الباردة.

، ويمكن القول أن بات ينقسم أساساً إلى معسكرين الغربي – الأطلسي، والروسي وحلفائه المنتظرين، بحيث من الان على المعسكرين التعود على الحياة بشكل مستقل بغير ما كان عليه الحال بعيد التسعينيات ووصول الليبراليين إلى الحكم في روسيا عام 1990. ويبدو أن هذا بات واضحاً مثلاً في قضية دفع ثمن الغاز الروسي، حيث كل من يريد أن يحصل في الغرب على الغاز عليه أن يدفع وفق ما عرضته روسيا أي الدفع بالعملة الروسية “الروبل”.

بالنسبة لمن اعتبرتهم روسيا من الدول غير الصديقة سيدفعون الثمن غاليا جراء طبيعة الصراع ومستوى انخراطهم به، وبالتحديد بولونيا المجاورة لأوكرانيا والتي هي المحطة الرئيسية لتوريد السلاح الغربي الى أوكرانيا، وبلغاريا التي لم تقصر بذلك، ويبدو رومانيا تسير على نفس الطريق، رغم أن العديد من دول العالم وافق من حيث المبدأ على خريطة الدفع الروسية، رغم أنهم يحاولون الالتفاف على القرار الروسي بطريقة ما، وخوفا من ضغط الحليف الأكبر،  باعتبار أن هذه الشروط الروسية تبدو لبعض دول الغرب شروط مذلة واعتراف ضمني بالانتصار الروسي..

تجدر الإشارة أن موضوع الروبل ليس هو ليس أولوية مالية واقتصادية فقط، بل الأولوية هي فرض الشروط الروسية على أوروبا والقبول بها، وإظهار موقف صارم لكل العالم بأن روسيا ليست هي الضعيفة وأنها كانت مستعدة للعقوبات والأحداث وتعرجاتها، فيما أوروبا هي إطلاقاً لم تكن مستعدة لهذه الخيارات، لأن الخريف والشتاء باتا قريبين في أوروبا  وأوروبا أظهرت عدم استعدادها وانقادت عميقاً في إعلان عدائها لروسيا، وبالتالي ستكون فاتورتها باهظة جداً ، وكذلك فاتورة الشعوب الأوروبية التي كانت تنعم بالبحبوحة ورغد العيش وبكل وسائل الراحة.

روسيا تقول اليوم ان هذه الراحة حان أجلها وقريباً ستنتهي وعليكم الاعتياد على نمط حياتي جديد ، فالأوروبيين لن يعيشوا فقد في شقق وبيوت باردة ، وسيحدث ذلك ليس فقط بسبب الموقف الروسي، بل لأن كل الحديث عن الطاقة الخضراء بات في حكم المنتهي، كما أن لا أحد اليوم يتحدث عنها وهي طي النسيان، فالحديث يجري عن ضرورة العودة إلى مناجم الفحم، وإعادة إحياء بعضها، ذلك أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يستمر دون الطاقة.

هذه هي بداية الأمور، لاحقاً ستبدأ أزمة أخرى ذات بعد نفسي ذلك ان اعتاد العيش في راحة، سيصعب أن يعيش دونها، والعيش في ظل هذه الراحة لن يحصل بعد الآن (لبنان نموذجاً). كما إن حكومات هذه الدول قررت الذهاب إلى أبعد ما يكون في المواجهة مع الاتحاد الروسي، وعمدت إلى طرد روسيا من عدة منظمات دوليةوطرد ديبلوماسييها ومصادرة مؤسساتها ومصادرة أصولها الماليةإلخ، رغم ان روسيا نفسها باتت هي من يعلن ترك هذه المنظمات لانحيازها واتهامها لهذه المنظمات بالتواطؤ ، ورغم هذا، يبدو ان هذه الدول تسعى بوسائل مختلفة لطرد روسيا من مجلس الأمن والمنظمة الدولية، والحجة هي إقامة حلف كبير ضد روسيا ، رغم ان ذلك لا يتحقق عملانياً بل يتم بصعوبة، والدليل على ذلك هو الاجتماع في قاعدة رانشتاين حيث اجتمع هناك فقط حوالي الأربعين دولة وهم حلفاء تقليديين للولايات المتحدة ، وبعض الحلفاء في القارة الآسيوية ، ولم يلاحظ وجود أو التمكن من اجتذاب حلفاء جدد ، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه أنه يوجد جبهتين الآن : أوروبا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وكندا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا الجديدة. أما ما تبقى من دول العالم لم يبد استعداده للذهاب بعيدافي مواجهة روسيا وعزلها، وبالتالي الذهاب أيضا في مشروع عزل الصين، ذلك أن المواجهة الكبرى المنتظرة لن تكون كما في الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة، بل بين الصين والولايات المتحدة، وما يجري اليوم في أوكرانيا، وما قد يحدث في دول الاتحاد السوفييتي السابق هو بروفة للمواجهة الكبرى، والتي نؤكد أنها لم تبدأ بعد.

إن نتيجة هذه المواجهة ستتحدد لاحقاً بحيث سينقسم العالمإلى أجزاء وتحالفات متناثرة، أجزاء ستعيش ضمن فضائها الخاص، بل أكثر ضمن فضائها الاقتصادي الخاص بها، أحلافاًاقتصادية قد تتعاون في بعض القضايا، ولكنها لن تكون متفاعلة ومنخرطة في علاقات واسعة كما كان العالم في السابق قبل عقد من الزمن، وقبل الرابع والعشرين من شباط 2022، يوم بدء العملية العسكرية على أوكرانيا.

إن كل ما يقال عن تحويل روسيا إلى المحاكم الدولية،وملاحقتها بقضايا عدة وفي قضايا اطاحتها بالعقود الاقتصادية، إن هذا إما يشير إلى مستوى من العجز، أو نوع من الاحتيال السياسي، ذلك لأنهم يرفضون منطق، أنّ لا أحد بات ينصاع لأية محاكمات دولية، وهذه المحاكمات أظهرت تفليستها في قضايا كالعراق وسوريا ولبنان وباتت قراراتها عديمة الجدوى.

هذه المحاكم ستبقى في ذلك العالم القديم الذي بات على وشك الموت، في العالم الجديد فإن هذه المؤسسات بات غير فعالة، ومن الغباء عدم رؤية هذه الأمر، ومن الغباء أكثر رؤية مثلاً ان محكمة ما في استوكهولم ستحاكم أحداً ما في العالم. نعم ستُصدر قراراتها واحكامها ولكن السؤال الأكبر، من هو الذي سيخضع لها، ويمتثل لأحكامها وقراراتها. إن هذا أيضاً  من وقائع العالم الجديد التي يجب ان يعترف به العالم.  

انطلاقاً مما تقدم فإن الحرب في أوكرانيا ليست سوى محطة لهذا الصراع الكبير والذي تحدثت عنه روسيا مطولاً وحذرت من وقوعه، ولم يؤخذ بمصالحها الأمنية عن سابق تصور وتصميم، والدليل تدفق السلاح من كل حدب وصوب إلى هذه البلاد التي تدفع ثمناً باهظا لهذه الحرب اللعينة، التي يحاول كل طرف منخرط فيها أن يهزم الآخر، وتحولت هذه البلاد الجميلة إلى مختبر لكل هذه الصراعات الدموية في ظل غياب العقل والحوار، وتمزيق العلاقات التاريخية والأخوية والثقافة الواحدة والمصير الموحد.

لا شك أن هذه الحرب ستطال الجميع دون استثناء، وستطال أكثر من لم يكن مستعدا لها، وبنسبة اقل من استعد لها ورأى أبعادها، وهو ما لم تفعله أوروبا بالتحديد، وبالتالي يمكننا خلال عام او عامين ي أن نتوصل إلى استنتاجات حقيقية حول صورة هذا العالم الجديد، أي من كان مستعداً جيدا ومن لم يكن مستعداً لما كان سيجري بدءاً من 23 شباط 2022 ..

ماذا عن الوضع الحالي وآفاق الصراع في أوكرانيا؟

خطورة الوضع هي أن كييف والغرب يمكنهما اختبار الأرضية لفتح جبهة ثانية. على أي حال، ستحتاج روسيا إلى ممر، وستفقد القوات المسلحة الأوكرانية أوديسا على الفور. سيتم تحويل انتباه الجيش الروسي عن مجموعة الدونباس، التي يتم تحضير فرن جديد وحام من أجلها. لذلك، استعدادًا لمثل هذه الاستفزازات،حددت كييف والغرب مهمة تقسيم القوات الروسية.

في العام الماضي، اقترح بعض الاستراتيجيين الحرب الشاملة ضد روسيا، بمعنى إلغاء وتجميد جميع النزاعات في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي في وقت واحد، لشن هجوم متزامن علىموسكو، وبالتحديد تحدثوا بشكل خاص عن أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. لكن الجو هادئ هناك ولا يسمح إلى الآن بذلك. لذلك يعد فتح جبهة ثانية الآن، خطوة متوقعة تمامًا من جانب الغرب، وبالتحديد في مولدوفا.

تتخذ السلطات المولدوفية الآن موقفًا مشابهًا لموقف جورجيا في عام 2008. “المفاجأة” قد تأتي من أوكرانيا، والتي ستكون سببًا لجر ليس مولدوفا فحسب، بل رومانيا أيضًا إلى الحرب.

في قرية كولباسنا، وهي قرية في منطقة ريبنيتسا في جمهورية مولدوفا بريدنيستروفيا، لا يزال هناك أكبر مستودع ذخيرة في أوروبا، والذي لا تمانع القوات المسلحة الأوكرانية، التي تستنفد ذخيرتها بسرعة، في الاستفادة منه. يمكن أن لا يحدث الأمر سريعاً، بل هو مجرد خيار بالنسبة لهم، ولكن ربما الطريقة الوحيدة للحصول على الذخيرة، لأن موسكو استولت على كم كبير من السلاح الغربي من نوع جافلين وستينغر، أو دمرت المستودعات التي تحويها.


يخشى الجانب الأوكراني من أن يشارك تجمع القوات، الموجود على أراضي جمهورية تراسينسيتريا-بريدنستروفيه، بنشاط في عملية خاصة في أوكرانيا.

لكن الأوكرانيين لن يدخلوا هناك، لأن هناك مجموعة جادة يمكنها الدفاع عن نفسها. وبالنظر إلى أن الجيش الروسي قد وصل بالفعل إلى نيكولاييف وسيواصل التحرك نحو ترانسنيستريا،فبالنسبة للأوكرانيين ستكون هذه حرباً انتحارية، رغم أنه لا يستبعد أن “مولدوفا يمكن أن تنخرط في هذا الوضع“. يعتقدالخبراء أنه طالما أن الهجمات على ترانسنيستريا تأتي من الجانب الأوكراني، فإن تجديد الصراع هناك مسألة وقت ليس إلا!!

——————————————

*باحث في التاريخ الروسي وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.