زرقاء اليمامة رمز أسطوري يرمز للتنبؤ واكتشاف الخطر وقوة البصيرة

 

 

بقلم : دانيا يوسف*

 

تتعلق أسطورتنا اليوم بمصير مدينة هي اليمامة، وباندثار شعبين أسطوريين من سكانها القدماء هما طسم وجديس. وتروي الأسطورة ان حربا اندلعت بين القبليتين بسبب ما أمر به ملك طسم عملوق من ”أن لا تزفَّ امرأة من جديس إلا اذا أُتيَ بها إليه قبل زوجها”.
وقد بقي عملوق الطسمي يمارس عادته حتى كان يوم زُفّت فيه إليه فتاة اسمها “عميرة بنت غفار”. وقد استعر الغضب عند أخيها “عميرة الأسود بن غفار” سيد جديس، وقرر أن ينتقم من عملوق وقومه طسم.
فأولم وليمة دعا طسماً كلَّها إليها، واتفق مع قومه أنهم إذا جاءوا وجلسوا إلى الوليمة أن ينفرد كل واحد منهم بجليسه، وينفرد هو بعملوق.
وقد نجحت الخطة فعلاً، وتمت إبادة طسم، لولا قلّة ممن هربوا إلى حمير. فلما سمع ملك حمير حسان بن تبّع بما جرى لطسم على أيدي أبناء عمومتهم جديس قرر أن يثأر لهم. فجهز جيشاً جراراً في ثلاثمائة ألف راكب واتجه نحو اليمامة للقضاء على جديس.
بعض الطسميين الذين هربوا أخبروا الملك بأن في جديس امرأة يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، لذلك لابد من التمويه عليها بأن يضع كل فارس غصناً من الشجر أمامه حتى لا تراه.
وفي هذه الأثناء اعتلت زرقاء اليمامة حصناً من حصون جديس يقال له النبيل، وانتبهت إلى حركة الأشجار فصاحت في قومها: أي قوم زحفت إليكم حمير. وأرى شجراً ، وخلفها بشراً. فكذبوها، وقالوا: ما تزالين تأتيننا بالإفك. ثم رجعت بصرها فوضح لها صدق ما رأت فقالت:خذوا حذاركمُ يا قوم ينفعكم
فليس ما قد أرى بالأمر يُحتقرُ
إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ
وكيف تجتمع الأشجار والبشر
لم يصدق أهل جديس زرقاء اليمامة، والذين صدقوها منهم قالوا كيف نبدأ بحرب قوم ربما طلبوا غيرنا. لكن جيش حسان دهمهم بعد أربعة أيام، فقتل الرجال وسبى النساء، وقلع عيني زرقاء اليمامة.
تناولت المصادر الأدبية والتاريخية شخصية زرقاء اليمامة من زاويتين : أولاهما وصفها بالحكمة ورجاحة العقل.
والثانية حدة البصر والقدرة على رؤية الأشياء من مسافات بعيدة، فقد قيل إنها كانت ترى الراكب أو الفارس من مسيرة يوم أو مسيرة ثلاثة أيام وقد يكون في الأمر في الأمر بعضٌ من مبالغة. لكننا لا يمكن أن ننكر وجود أمثال هذه القوى أو الملكات عند بعض الأشخاص دون غيرهم، والأمر في شأن الإبصار مرتبط بالفراسة وصدق التخمين ودقة التوقع وهي كلها صفات كانت حاضرةً عند زرقاء اليمامة .
برزت شخصية زرقاء اليمامة في الشعر المعاصر بوصفها رمزا أسطوريا يرمز إلى القدرة على التنبؤ واكتشاف الخطر قبل وقوعه والتنبه إليه وتحمل نتيجة إهمال الأخرين وعدم إصغائهم إلى التحذير. وقد مثلت الزرقاء تراثا تاريخيا عند أبرز شاعرين وظفا زرقاء اليمامة في شعرهما وهما: عز الدين المناصرة وأمل دنقل.
يقول عز الدين المناصرة : تتدلى أشجار التين على الحيطان الشرقيه نتلقى الدرس الثاني تحت الشمس الصاحية النيسانية نكبر، نهجر ساحة شيخ الحانوت نحلم بالشرنقة المنسوجة من أوراق التوت لكن يا حبي الأول قلت لنا إن الأشجار تسير تقفز تركض في الوديان في اليوم التالي يا زرقاء في اليوم التالي يا زرقاء كان الجيش السفّاح ينحر سكان البلدة في عيد النحر قلعوا عين الزرقاء الفلاحة خلعوا التين الأخضر من قلب الساحة في اليوم التالي يا زرقاء.
أما الشاعر أمل دنقل فيتخذ من الهزيمة المفجعة في الخامس من حزيران 1967 منطلقا على لسان جندي ناج من براثن الهزيمة ليرتَدَّ ارتدادات خلفية عن التحذيرات والنبوءات التي قدمتها زرقاء اليمامة ولم ينتبه إليها أحد.
يقول أمل دنقل: أيتها العرافة المقدسة جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء. أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة. أسأل يا زرقاء عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء عن ساعدي المقطوع وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة.
ولزرقاء اليمامة مثيلة في التراث اليوناني وهي كاساندرا الطروادية. كانت كاساندرا ابنة بريام، ملك طروادة، ولقد أحبها الإله أبولو ولكنها لم تقبل هذا الحب. فخيّرها أبولو بين الخلود والفناء، فاختارت الفناء. فعاقبها الإله بأن أعطاها هبة النبوءة مع عدم تصديق الآخرين لها. وبذلك قضى عليها أن تعيش في العذاب، لأن كل ما تتنبأ به يتجاهله الناس.
لقد تنبأت كاساندرا حسب الأسطورة بدمار طروادة الوشيك على أيدي الإغريق، لكن قومها الطرواديين لم يصدقوها تماماً كما حصل مع زرقاء اليمامة. المطابقة بين عيني كاساندرا “اللامعتين” وعيني الزرقاء تكاد تكون كاملة. فعينا الزرقاء كانتا “تلمعان مثل الزجاجة” كما يصفها النابغة الذبياني. يقول المسعودي في إبراز أهمية عينيها: ”كانت اليمامة الزرقاء، وعينها الواحدة أكبر من الأخرى”. لقد أفضى اقتحام طروادة إلى مقتل كاساندرا، وكذلك أفضى اقتحام اليمامة إلى مقتل الزرقاء باقتلاع عينيها اللامعتين.

*إعلامية وناقدة