تهاوي الدومينو السياسية وانهيار الاتحاد الاوروبي..!

بقلم العميد منذر الايوبي*

يبدو ان توقعات رئيس الوزراء الروسي ونائب رئيس مجلس الامن القومي ديمتري مدفيديف التي لم يبخل بها على وسائل الاعلام ومنصة التغريد العالمية عما سنشهده في العام الجديد 2023 قد تصدُق منها بنود وتسقط اخرى، لا سيما لجهة انهيار الاتحاد الاوروبي، ففي حمأة العملية العسكرية الخاصة للقوات الروسية منذ ما يناهز العشرة اشهر والتي تحولت من خلال الدعم العسكري والمادي لاوكرانيا حربآ مفتوحة مع التحالف الغربي ودول حلف شمال الاطلسي ولو بصورة غير مباشرة، اثار تحرك وحدات من الجيش الصربي نحو الحدود مع اقليم كوسوفو تخوفآ دوليآ من الانزلاق نحو حرب جديدة على مسرح الشرق الاوروبي ..

في الموجز التاريخي؛ يعتبر اقليم كوسوفو البوابة الجنوبية لدولة صربيا، وترى فيه الاخيرة امتدادا لأمنها القومي الإستراتيجي، كما أن هذا الموقع الجغرافي جعل منه مسرحآ لحروب تاريخية خلال القرون الماضية، لا سيما بين الجيوش العثمانية من جهة والصربية من اخرى ادت إلى سيطرة السلطنة العثمانية على صربيا وباقي دول البلقان لمدة 500 عام تقريبآ ..

 

 

تشكل التركيبة العرقية الثقافية والدينية لاقليم كوسوفو نقطة ضعف لا التقاء وغالبية السكان البالغ عددهم 1,8 مليون نسمة من الإتنية الألبانية، كما ان الموقع الجيوسياسي المتميز جعله هدفآ لأطماع صربيا ومحاولاتها الدائمة ضم الاقليم.. مع الاشارة الى اعلان كوسوفو استقلالها عام 2008، واذ رفضت بلغراد الاعتراف بذلك شجّعت ما يناهز 120 ألفاً من الاقلية الصربية على تحدي سلطة بريشتينا – عبر إشعال التوترات خصوصاً في المناطق الشمالية..!
تاليآ، اتى تجدد حالة التوتر في العاشر من كانون الاول الماضي اثر اقدام مواطنين صرب على قطع الطرق واثارة اعمال شغب تخللها اعتداءات مسلحة استهدفت عناصر الشرطة وقوات حفظ السلام الدولية احتجاجاً على اعتقال عسكري سابق تورط في هجمات ضد ضباط شرطة كوسوفو، تبع ذلك اعلان سلطات الاقليم اغلاق معبر Merdare الحدودي الرئيسي مع صربيا متهمة الاخيرة بسعيها الدائم لزعزعة الاستقرار ونزوعها لإشعال حرب جديدة بذريعة حماية الأقلية الصربية.. بالتوازي، وضعت بلغراد قواتها في حالة تأهب قصوى في حين توجه قائد الجيش الصربي General Milan Mojsilović الى بلدة Raška التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات عن الحدود المشتركة لمعاينة الوضع الميداني بعد نشر عدة وحدات عسكرية في المنطقة الحدودية المأزومة..
تباعآ؛ تسارعت المعالجات قبل اطلاق الرصاصة الاولى؛ اذ طلبت Pristina (عاصمة كوسوفو) من قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي إزالة الحواجز التي أقيمت على أراضيها. من جهته وزير الدفاع الصربي Milos Vucevic في مقابلة له على محطة RTS صرح: «نشعر جميعاً بالقلق إزاء الوضع وإلى أين يتجه، ان بلغراد مستعدة للتوصل إلى اتفاق مع كوسوفو» دون تحديد التفاصيل؛ معتبرآ الحواجز على الطرقات وسيلة احتجاج «ديموقراطية وسلميّة»، كاشفآ عن «خط اتصال مفتوح» مع دبلوماسيين غربيين لحلّ القضيّة.

بالمقابل اعتبرت الحكومة الألمانية تعزيز الوجود العسكري الصربي على الحدود مع كوسوفو “إشارة بالغة السوء”. المتحدث باسم وزارة الخارجية Christopher Berger دعا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الى “نزع فتيل التوتر”. بيان مشترك صادر عن وزارة الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي تضمن “دعوة جميع الاطراف الى التزام أكبر قدر من ضبط النفس واتخاذ إجراءات فورية من أجل وقف التصعيد دون شروط”؛ في لندن حذرت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، Alicia Kearns من خطورة ما يجري مطالبة “بذل المزيد من التركيز والجهد على الأحداث الجارية في غرب البلقان ولا سيما كوسوفو والبوسنة والهرسك”..! داعية الى التهدئة ووقف التصعيد..!

من جهة اخرى؛ في حين يدعو الغرب الى التهدئة فالخشية قائمة من التهاب الملعب الجيو سياسي في نقطة جديدة، اذ تعتبر دولة صربيا حليفآ استراتيجيآ لروسيا في حين تتمتع كوسوفو بحماية حلف NATO – ومن هذه المنطلقات اعلن المتحدث باسم الكرملين Dmitry Peskov للصحافيين: «ندعم بلغراد في الخطوات التي تتخذها- أن صربيا دولة ذات سيادة ومن الخطأ أساسا البحث عن نوع من التأثير المدمّر لروسيا هناك» كما اعتبر بيسكوف أن “من الطبيعي ان تدافع صربيا عن حقوق المواطنين الصرب الذي يعيشون في الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها”.
في التنجيم؛ “مدفيديف” ليس من قارئي الكف والفنجان، يمكن ادراج تصريحاته وتوقعاته بالحد الادنى ضمن الحرب النفسية، لكن وقائع ما يجري على ارض القارة العجوز لا يستبعدها بل يطالها في عمق تركيبتها؛ وهي شهدت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حدثين مفصليين الاول سقوط جدار برلين وتوحيد الالمانيتين والثاني انهيار الاتحاد السوفياتي وبعثرة دوله شرقا وغربا.. رغم ذلك ابقى الغرب الاوروبي والحلف الاطلسي على استراتيجية تصنيف روسيا خصمآ اساسيآ وتهديدآ اول، ما اعاد الامور بالصيرورة الزمنية الى سيرتها الاولى حيث افرزت بالمنطق السياسي الطبيعي وبالخلفية التاريخية الايديولوجية والدينية عودة الكنيسة الكاثوليكية الام الى قرع اجراسها في موسكو وتعميم ظلها على الواقعين الديني والسياسي، وقيادة جديدة في الكرملين من نوعية الرئيس فلاديمير بوتين والطاقم الحاكم قادرة على تبني استراتيجية استعادة روسيا العظمى القيصرية تنافس الاتحاد الاوروبي تجاريآ واقتصاديآ، تتفوق عسكريا وتتحدى حلف NATO كما توطد بامكاناتها وتحالفاتها حكم الكوكب بالثنائية القطبية..


في التفاعل التسلسلي Chain Reaction مجازيآ، فإن تهاوي احجار الدومينو الاوروبية تحت تأثير الجاذبية الجيوسياسية Domino Effect ليس امرآ مستبعدآ، مما يعني حتمية توالي الاحداث السيئة مع العواقب والانعكاسات. في ظل الوضع الدقيق الذي تشهده دول القارة العجوز فإن نظمها الديموقراطية واحزابها تنحو تباعآ الى حكومات اكثر راديكالية، كما ان الازمات الاجتماعية المتشعبة الناتجة عن الحرب الروسية-الاوكرانية قابلة للتفلت مع تعدد القوميات والاتنيات وهي نقطة الوهن الدائمة، إضافةً الى ان الوضع الاقتصادي المتعب والمتداعي ينذر بأسوأ العواقب:
-تحت عنوان (الباغيت الفرنسي) Baguette Bread ضحية الغلاء؛ تمارس الحكومة الفرنسية ضغوطا على موردي الغاز والكهرباء لدعم اصحاب المخابز المتضررين من ارتفاع الاسعار».
-صحيفة التلغراف اللندنية نشرت اليوم:«الفقر يبلغ مستوى قياسيآ؛ لم تمر أزمة معيشية على البريطانيين منذ الحرب العالمية الثانية كما هي عليه الآن، بعد وصول نسبة التضخم إلى 9% ومن المتوقع أن تصل إلى 10%، وهو أعلى معدل منذ أكثر من 50 سنة»..

في التخدير الموضعي تخفيض ألم، لذا لن تنجح معالجات ظرفية آنية في امتصاص نقمة الشعوب الاوروبية على سياسات حكوماتهم لا سيما بعد تورطها في دعم اوكرانيا ماديآ على حساب رفاهية عيشهم. كما لن يساهم الدعم العسكري المفتوح في هزيمة روسيا، اضافة الى ان عامل الوقت والنزف المفتوح اقتصاديآ في مسألة الطاقة ليس في صالح اوروبا، بالتوازي مع ازمة غذاء شبه عالمية نتيجة انخفاض القدرة على انتاج القمح والحبوب وصعوبة او تقنين تصديرها للدول النامية والفقيرة..!
اخيرآ؛ البشرية في مرحلة حرجة؛ اذ ان مقومات الصراع المؤدي للفناء الشامل Game Over قائمة ومفاتيح صوامع الصواريخ النووية ازيل عنها الصدأ، ربما ولى زمن القديسين وساد المنجمين، لكن الامل صنو الرجاء عَلَّ الصلوات لا تزال فعالة وسيطة جميع النِعم..!

بيروت في 06.01.2023