الخبز حفيد الارض وإبن النار… هكذا تقاربه الآداب العالمية

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

 

بسمرة أحد خديه وحمرة الخد الآخر ولكونه حفيد الأرض والتراب وابن النار واللهب ولارتباطه العضوي بالفلاح والخباز احتل رغيف الخبز مكانة مرموقة في الأدبين العربي والعالمي اضافة الى ارتباطه بالتراث والتاريخ وثقافات الشعوب ووجدانها الشعبي.
وطوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، عاشت فرنسا سلسلة من الاضطرابات العنيفة محورها الخبز. فالخميرة التي كان يصنع منها خبز النبلاء كانت تُستورد من بلجيكا، بخلاف خميرة خبز الشعب التي كانت عبارة عن قطعة من عجين سابق. وبقيت الاضطرابات حول الخبز مستمرة لأكثر من 150 سنة بعدها حتى شكل الشرارة التي أشعلت الثورة الفرنسية الكبرى.
ومن أشهر الحكايات التي تروى في هذا المجال هو أن الملكة ماري أنطوانيت سألت عن سبب تظاهر الشعب غضباً فقيل لها إن الشعب يريد أن يأكل ولا يوجد خبز. فقالت: إذا لم يكن هناك خبز فليأكلوا البسكويت. وعلى الرغم من أن المؤرخين يشككون في صحة هذه الرواية ويعتبرونها مجرد شائعة شعبية، إذ لا يعقل أن تكون زوجة لويس السادس عشر على هذا القدر من السذاجة، فإن هذه الحكاية تلخص تاريخ طبقية الخبز المغمس دائماً بالسياسة.
الخبز في الرواية العربية:
موضوع الخبز في الأدب العربي تجلّى في رواية “الرغيف” للقاصّ اللبناني توفيق يوسف عوّاد. تدور أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى حين أطبقتِ المجاعة على سكان لبنان وتصوّر سعيهم وراء الرغيف، والكدِّ للحصول عليه خبزاً أو طحيناً.
أما الشاعر المهجري رياض معلوف، فيتحدّث عن الرغيف في معانٍ رائعة، ويناجيه ويدعوه لأن يكون إنساناً أكثر من الإنسان فيقول: “يا رغيفنا، يا أب الّلقمة الطّيّبة، لولاك ما طابت المائدة، يا خبزنا اليوميّ الكريم، كُن إنساناً أكثر من الإنسان، وتكرّم على من حرمهم الدّهرُ من لُقمتك، وعلى من اشتاقوا كثيراً إلى طلعتِك وإطلالتِك”.
ومن المفارقات في الأدب حول موضوع الرغيف أنه استخدم كرمزٍ للكَرَم كما استخدم كَرَمزٍ للبُخل. يقول جبران خليل جبران في كتابه رَمل وزبد:”إنّك لا تستطيع أن تأكل أكثر من حاجتك. فإنَّ نصف الرغيف الذي لا تأكله يخصّ الشخص الآخر، ويجب أن تحفظ غيره قليلاً من الخبز لضيف ربما يمرّ بك على غير انتظار.”
ويقول الجاحظ عن أحد بخلائه أنه جَلَدَ الخبّاز لأنه أنْضج الخبز ووضَعَه أمام الضيف وكان قد أوصاه بعدم إنضاجهِ لئلاَّ يؤكل فيقول: “انضج خبزي الذي يوضع بين يدي واجعل خبز من يأكل معي على مِقدارٍ بين المقدارين. وأما خبز العِيال والضيف فلا تقربّنه من النار إلا بقدر ما يصير العجين رغيفاً وبقدر ما يتماسك فقط . ولما أعجز ذلك الخبّاز نال نصيبه من الجلد الألي )
الخبز في الأدب العالمي
نظراً إلى الرموز الحياتية التي يحملها، ظهر الخبز في معظم الروايات الأجنبية التي تناولت الفقراء والأزمات الاجتماعية. القاص الفرنسي بول كلوديل كتب مسرحية في العام 1918 بعنوان الخبز القاسي. أما الأديب الروسي الشهير مكسيم غوركي فقد كتب سيرته الذاتية بعنوان “كاسباً لقمة عيشي”. البؤساء رائعة “فيكتور هوجو” تتناول فترة الثورة الفرنسية والفقر المدقع والظلم الاجتماعي الذي كان يعاني منه الفرنسيون في تلك الفترة، وتدور حول البطل “جان فالجان” الذي قضى في السجن ما يقرب من عشرين عاماً بسبب سرقته لرغيف خبز، وبعد خروجه يظل مطارداً حتى نهاية حياته.
الخبز في الشعر:
كان الخبز المادة الحيوية لقصائد الشعراء وقوافيهم فهذا الشاعر محمود درويش في قصيدته المشهورة “أحن إلى خبز أمي” يثير حنين الأفئدة ورائحة الحب بوهج نار التنور ووقود العيش أماً وأرضاً. كما أنه اعتبر أن ثمة داعياً كبيراً ومنه رائحة الخبز لاستمرار الحياة والمقاومة للنهوض يومياً، معتبراً إياه منبعاً لأمل ومصدراً مهماً للتفاؤل بقوله: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة رائحة الخبز عند الفجر”.
وهذا أيضا الشاعر السوري محمد الماغوط يكتب:” مذ كانت رائحة الخبز شهية كالورد.
كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين.
و أنا أسرِّح شعري كل صباح.
ألبس أجمل ثيابي.
و أهرع كالعاشق في موعده الأول.
لإنتظارها
لإنتظار الثورة التي يبُست رجلاي من انتظارها”.
ووصف الشاعر القروي رشيد سليم الخوري رغيف الخبز وصفا جميلا فقال:
“من حبة القمح اتخذ مثل الندى … يا من منعتَ عن الندى يمناكَ
هي حبة أعطتكَ سبعَ سنابلٍ … لتجودَ أنتَ بحبةٍ لسواكَ
كأنّ الشّقَّ الذي في وسطها…لك قائلٌ : نصفي يخصُّ أخاكَ”
أما ابن الرومي فقد وصف عملية إنضاج الرغيف وهو في يد الخبّاز يقلبه بمهارة وخفة استرعت انتباه هذا الشاعر فوصفه بالقول:
“إن أنسى لا أنسى خبازا مررت به… يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
مابين رؤيتـها في كـفه كـرة …وبين رؤيتـها قـوراء كالقمر
إلا بمقــدار ما تنـداح دائرة …في لجة الماء يلقى فيها بالحجـر”
ختاما ، كما أنها النار التي توقد لصناعته، يوقد الخبز في مخيلة أبناء الحياة صوراً تعظمه، وتهب في نفوسهم أناشيد الاستمرار حلماً وفعلاً وانعتاقاً ليصبحوا دواة له كما هو دواء لبقائهم ووجودهم.