أيقونة الثورة والجزائر جميلة بو حيرد: أخجل من الشهداء ..ولا أجد كلاماً يمكن أن أصفهم فيه

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

هي من النساء الأكثر شهرة في التاريخ العربي الحديث. غدت رمزاً لثورات التحرر في العصر الحديث، وحركت الرأي العام العالمي لمصلحة الثورة الجزائرية. إنها المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد.
ولدت جميلة بو حيرد عام ألف وتسع مئة وخمسة وثلاثين في حي القصبة في الجزائر العاصمة، لأب جزائري وأم تونسية. تشربت مبادئ النضال من والديها، فقد انتفضت أمها غاضبة حينما سمعت جميلة تردد عبارة من كتاب التاريخ تقول: “أسلافنا هم شعب الغال، والغال هم أسلاف الفرنسيّين، وقالت لابنتها: “الجزائر وطنك، والعروبة هويتك والإسلام دينك”. وهو الكلام الذي انعكس في شخصيتها التي اتخذت منعطفاً ثورياً، ففيما كان زملاؤها في المدرسة يرددون في طابور الصباح “أمنا فرنسا”، كانت تهتف وحدها: “أمّنا الجزائر”. فعوقبت لهذا ، ولكنها زادت إصراراً وتشبثاً بموقفها.
منذ أن غزت فرنسا الجزائر ألف وثماني مئة وثلاثين، قاوم الجزائريون المحتلّين بضراوة، لكن عدوهم كان أقوى منهم عدداً وعدة. وبعد ذلك، اتبعت فرنسا سياسية شرسة لمحو هوية الجزائر الإسلامية والعربية، فمنعت تدريس اللغة العربية وفرضت اللغة الفرنسية، وصادرت الأراضي الخصبة ومنحتها لمستوطنين فرنسيين.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، أعلنت فرنسا رسمياً ضم الجزائر إليها، وجعلتها مقاطعة فرنسية في أفريقيا، ونتيجة لذلك جنّدت آلاف الشباب الجزائري للقتال خلال الحرب العالمية الثانية، وخلال تلك المرحلة أعطت فرنسا وعوداً بمنح الجزائر استقلالها إن دعمها الجزائريون في حربها.
خرجت فرنسا منتصرة من الحرب، ولكنها سرعان ما نكثت وعدها باعطاء الجزائر الاستقلال ، وهو ما أدى إلى انطلاق مظاهرات احتجاج سلمية، لكنها قمعت بوحشية بلغت ذروتها بمجزرة قسنطينة الدامية التي ارتكبتها قوات الأمن الفرنسية، وسقط خلالها آلاف المتظاهرين الجزائريين بين قتيل وجرح، وهي المجزرة التي أكدت للجزائريين بأن فرنسا لن تمنحهم حرّيتهم إلاّ إن قاتلوا في سبيل نيلها. في ذلك المناخ المضطرب نشأت جميلة بو حيرد.
عام ألف وتسع مئة وأربعة وخمسين انطلقت ثورة التحرير في الجزائر، وعمّت مختلف أنحائها. حينها كانت جميلة بوحيرد في التاسعة عشرة من عمرها، فالتحقت بالخلايا الثورية السرية، قبل أن تنضم للمجموعات الفدائية، وتطوّعت للمشاركة في مهام زرع الألغام والعبوات في طريق الوحدات العسكرية الفرنسية، فكانت واحدة في مجموعة ضمت إضافة إليها ثلاث فتيات جزائريات. ومع النجاح المتوالي لهذه العمليات والكمائن، وتصاعد أعداد الإصابات في صفوف المحتلّين، باتت جميلة بوحيرد من المطلوبين لسلطات الاحتلال، وخصوصاً بعد اشتباه الفرنسيين بدورها في انفجار استهدف ناديا يقصده جنود الاحتلال. وإضافة إلى دورها العسكري، فإن جميلة كانت صلة الوصل بين قائد الجبل في جبهة التحرير الجزائرية ومندوب القيادة في الجزائر العاصمة.
في التاسع من نيسان ألف وتسع مئة وسبعة وخمسين، أطلقت دورية فرنسية النار على جميلة بوحيرد، وأصابتها في قدمها، وبعد اعتقالها، وجدت معها رسائل ووثائق وأموالا، تثبت حسب الادعاء الفرنسي علاقتها بقائد الفدائيين الجزائريين ياسف سعدي. تعرّضت جميلة بوحيرد خلال استجوابها لأقسى أنواع التعذيب الوحشي التي سببت لها إصابات بالغة، وبرغم ذلك فشل الجلادون في الحصول على أي معلومات أو اعترافات مفيدة منها.
قُدّمت جميلة بوحيرد للمحاكمة، وواجهت قضاتها بشجاعة وأعلنت تشبثها بحق الجزائر بالتحرر ونيل الاستقلال، وخاطبت القضاة بقولها: “أعرف أنكم ستحكمون علي بالإعدام، ولكن لا تنسوا أنكم بذلك سوف تعدمون الحرية في بلادكم ولن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة”. وقد احتلت وقائع هذه المحاكمة مساحة واسعة في وسائل الإعلام آنذاك، وخصوصا بعدما تولّى الدفاع عنها المحامي الفرنسي الاشتراكي جاك ﭬـيرجس، الذي سخّر علاقاته الواسعة ليزيد اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام العالمي بقضية جميلة بوحيرد وقضية الجزائر وثورتها، وليتولّى بعدها مهمة الدفاع عن عدد آخر من مناضلي جبهة تحرير الجزائر.
في حزيران عام ألف وتسع مئة وسبعة وخمسين حكم على جميلة بالإعدام، ونقلت إلى السجن بانتظار تنفيذ الحكم. لكن بوحيرد كانت قد غدت رمزاً للثورة الجزائرية، وأيقونة عالمية للنضال في سبيل الاستقلال. فنظمت المظاهرات العالمية دعما لها، وتدخل رؤساء بعض الدول كجمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو مطالبين بإطلاق سراحها. وبرغم تحديد سلطات الاحتلال موعد تنفيذ حكم الإعدام، إلا أن الضغط الدولي حتّم تأجيله إلى موعد غير محدد، ثم نقض الحكم وعدّل إلى السجن المؤبد. لتنقل بعد ثلاث سنوات إلى أحد السجون الفرنسيّة.
وخلال ذلك، غدت شخصية جميلة بوحيرد موضوع العديد من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية بمختلف البلدان واللغات.
مع انتصار الثورة الجزائرية واستقلال الجزائر عام ألف وتسع مئة واثنين وستين ، أطلق سراح جميلة بوحيرد فتزوجت محاميها جاك فرجيس الذي أعلن أسلامه وغيّر اسمه إلى منصور. وقد غدت جميلة بوحيرد محط اهتمام وتكريم العديد من الجهات والدول والشخصيات على امتداد العالم.
تولّت بوحيرد رئاسة الاتحاد النسوي الجزائري، ولكن خلافاتها المتواصلة مع الرئيس الجزائري أحمد بن بيللا، جعلتها تقرر الاستقالة من منصبها، ثم انسحبت تدريجياً من الأضواء، وأقامت في فرنسا، ودخلت دائرة النسيان، وأهملتها السلطات الجزائرية، حتى اعتقد جزء كبير من الأجيال الجديدة بأنها توفيت، أو أنها من شهيدات الثورة الجزائرية.
فاصل
عام ألفين وتسعة بدأت عودة جميلة بوحيرد التدريجيّة إلى الأضواء، ولكنها أوضحت بأن لا طموحات سياسية لديها. وقد نبشت هذه العودة الذاكرةَ التاريخية للثورة الجزائرية وفترةَ ستينيات القرن العشرين بما حفلت به ثورات تحررية، ما دفع بعض الجهات إلى تكريمها من جديد كرمز ثوري حي. أمّا جميلة بوحيرد فحافظت على صمتها البليغ، وفي إحدى اللقاءات التكريمية، قالت:”لو كتبت شيئاً في يوم ما، فسأتحدث عن الشهداء وحدهم، إنهم يعيشيون في وجداني، أحب أن أكتب عنهم بقدر ما أتذكرهم، إلا أنني خجولة منهم وأخشى ألا أجد كلاماً رائعاً وكبيراً لأصفهم به”.

————–