“”صيادون في شارع ضيق” حين تضيق الارض كلها بإبن القدس

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

—————

إسم الرواية : “صيادون في شارع ضيق”.

الكاتب : جبرا ابراهيم جبرا.

قلما خلت روايات جبرا ابراهيم جبرا من القدس. فهي مدينة الحب والجمال، فيها تعلم، وفيها بدأ وعيه يتبلور من خلال قراءاته الكثيرة، وفيها عاش المعاناة الفلسطينية التي كان جزءاً منها. والرواية التي اخترناها لنتحدث عنها بتفصيل أكثر هي “صيادون في شارع ضيق”، التي كتبها جبرا باللغة الانكليزية في العام 1955، ونشرت في العام 1960. وبعد مرور سبع سنوات على نشر النص الانكليزي، ترجم الرواية د. محمد عصفور، تلميذ جبرا في الجامعة، إلى اللغة العربية.
جبرا ابراهيم جبرا: “بطل روايتي هو جميل فران، الشاب الفلسطيني الذي تضطره الظروف الصعبة التي شهدتها فلسطين قبل العام 1948، من تهجير قسري له ولأسرته، فينتقل من منزله الجميل في القدس للعيش في غرفة مع عائلته في بيت لحم. ونظراً للظروف الاقتصادية التي نشأت عن اللجوء، وعدم توفر وظائف، اضطر جميل فران إلى البحث عن عمل خارج الوطن. وهكذا، ترك جميل فران الغرفة التي كان يسكنها مع أهله في بيت لحم، ليذهب في تشرين الأول/اكتوبر من عام النكبة ليعمل في العراق.”
يرحل جميل فران تاركا ذكرياته في القدس خاصة ذكرى خطيبته ليلى شاهين التي تستشهد اثر هجمة صهيونية استهدفت المنازل العربية بالهدم بهدف تهجير أهلها من الأحياء التي كانوا يسكنونها. ومن بين الأنقاض، يخرج جميل فران يد ليلى وبيدها خاتم الخطوبة. وتظل ذكرى ليلى مع جميل فران، وتبقى صورتها في قلبه.
جبرا ابراهيم جبرا:”بغداد كانت بلد اللجوء، تستهويه المدينة، كما تستهويه، لندن، وباريس، والقاهرة، ودمشق، لكن كل ملامح المدن، تذوب أمام مدينة واحدة: مدينة القدس. وفي ذلك يقول: “تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرحة، وسقوفها المهدمة، وقد أتيت إلى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بها”.
وتنتقل الرواية إلى قصة الصراع على فلسطين.
جبرا ابراهيم جبرا:” يقول بطل روايتي جميل فران: “استيقظنا على صوت سلسلة من الانفجارات العنيفة التي هزت بيتنا”. ويوضح أن تلك الفترة شهدت اقتراح الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين إلى شطرين، وأصبحت البيوت العربية الجميلة المشيدة بالحجارة البيضاء والوردية هدفاً لهم. ولأن بيت جميل فران يقع في طرف المدينة، فقد احتلته قوة الإرهاب.”
وإذ يصور بطل الرواية قصته الشخصية في تلك الفترة، فإنه يعطي صورة عن الوضع في العام الذي سبق النكبة من حيث القوة التي كان يتمتع بها الإرهابيون اليهود، بينما في كل الحي الذي كان يسكن فيه، لم يكن هناك سوى أربعة مسدسات، وبندقية ألمانية قديمة ومعها خمس رصاصات بالضبط. ولكن لم يكن أي من الرجال قد أطلق رصاصة من قبل، كما أن قلة عدد الرصاص، جعلتهم يمتنعون عن تجربة حية لتوفير الرصاص للدفاع عن النفس. ويصف فران كيف تغيرت حياة الناس في بيت لحم بعد أن قُطعت عنهم القوة الكهربائية الموجودة في القدس الجديدة.
جبرا ابراهيم جبرا: “كان الناس يتجمعون آلافاً في ساحة البلدة، كي يستمعوا إلى مذياع يعمل بالبطارية. وكل شيء كان ينتظر إلى “حين تفتح القدس ثانية….”. وحين يشتاقون للقدس، كان البعض يتسلق جبال بيت جالا لينظروا إلى المدينة التي حملوها في قلوبهم. كانت القدس بالنسبة لهم “مدينة أحلام تتراءى لهم عبر وادٍ هو وادي الموت”.وحينما حل الصيف، وبسبب ارتفاع أجور السكن، والعدد المحدود للبيوت في المدينة، نصب الناس خيامهم في البساتين والكروم وسفوح التلال. والذين أسعفهم الحظ، تمكنوا من إيجاد غرفة تعيش فيها العائلة.
في مثل هذا الوضع، كثرت الإشاعات: البعض يقول إن القدس ستدوّل، وآخرون يقولون إن الأمم المتحدة سوف تنفذ قراراتها بالقوة. لكن ما حدث كان المزيد من نسف البيوت، وقتل المزيد من القرويين.
جبرا ابراهيم جبرا: “في وسط هذا القنوط، كان الناس بحاجة إلى بارقة أمل. ونجح أبو هلال احد شخصيات روايتي والذي يتعاطى السحر بأن يعطي بارقة أمل، فقد تنبأ بأن “القدس ستفتح مرة ثانية”، حتى إنه أعطى تاريخاً محدداً لذلك. وفي لحظات اليأس يصدق الناس، ما لا يصدقونه في الظروف العادية. ولما مر التاريخ المحدد ولم تفتح القدس، ادّعى أبو هلال بأنه أخطأ في الحساب، وأعطى تاريخاً جديداً.”
ويتحدث الروائي عن تهجير السكان الفلسطينيين، خاصة المقدسيين إلى الأردن، ودمشق، وبيروت. فقد كانت الطريق إلى القدس مقطوعة من قبل العصابات اليهودية، لذلك كان على الناس استخدام طريق شديد الانحدار، يتجه شرقاً في طريق ملتوٍ عبر الجبال القاحلة. وكانت الطريق ملتوية، بنيت على عجل من أجل تسهيل حركات الجيش العربي التابع لشرق الأردن.
جبرا ابراهيم جبرا: في هذا الوضع يتساءل الخوري عيسى احد شخصيات روايتي: “أنا لا أفهم الغرب. فالمفروض أنه مسيحي، ولكن انظر إلى ما يفعلون بالمسيحيين وبأرض المسيح” فيجيبه يعقوب، الأخ الأصغر لفران: “لقد باعونا، لقاء ثلاثين قطعة من الفضة”.فيقول الخوري: “ولكن كيف يفعلون ذلك بالمدينة المقدسة؟ كيف يسمحون للقدس بأن تنهدم تحت أقدام الإرهابيين الصهاينة”؟
وفي مكان آخر في الرواية، تتذكر سلمى القدس، وسلمى هي إحدى شخصيات الرواية، زارت فلسطين قبل سنوات ثلاثة لمدة أسبوع، وتصفها بأنها لم تر في حياتها مدينة أجمل منها. فيجيب الآثاري، وهو شخصية أخرى في الرواية، بصوت فيه نبرة تشبه الترتيل: “قدس الفضة، يا قدس الذهب”… فيضيف جميل فران: قدس الزمرد والبنفسج…
جبرا ابراهيم جبرا:”ويتلو جميل فران قصيدة كتبها بالانكليزية أيام دراسته الجامعية يقول فيها: “يا قدساً سماؤها ياقوتة لا تنتهي، صدفة غسلتها مياه البحر ورفعتها، لتولد فيها كل صباح أفروديت جديدة…” وعندما يطالبونه بالمزيد، يقول: “يا أرض التربة الحمراء والحجارة بلون الورود، أرض الزيتون بخضرته التي منذ الطوفان ما حالت، والشقائق بحمرة الدم. ألم يسق ترابَك دمُ تموز والمسيح…”؟ وعندما ينتقل حديث أصدقاء جميل فران عن الشوق لباريس، وأحلامه فيها، والتحسر على أيامها، يقول جميل فران: “رغم أنني قضيت في باريس صيفاً بأكمله، فإنني في تلك اللحظة لم أذكر شيئاً منها. بل عوضاً عن ذلك، راحت شوارع القدس تنسرح كلها معاً أمام عيني، صاعدة، نازلة، منعطفة، وبناياتها بحجرها الأبيض تذرذر الأشعة، وتسكب وهج الفضة والذهب الذي يتلألأ في خيال العشاق جميعاً حين يطول بهم الفراق”.
هكذا أراد جبرا أن يمنح بطله صفة ابن فلسطين البار المنتمي لفلسطينيته. وهو وإن سكن في شارع الرشيد، فالشارع يضيق عليه، كما ضاقت عليه باريس، وما من شارع يتسع له بعيداً عن شوارع القدس.

———