أفنان

 

بقلم: فاطمة صالح صالح* 

من سفح الجبل المطل، كانت تراقب فيضان النهر، سعيدة منتشية. الشمس ساطعة، بعد غياب عدة أيام صقيعية مثلجة، ورياح هوجاء، هدأت الليل الفائت. طارت بروحها، واستقرت بجانب سرير النهر الأيسر. كانت الحصى والصخور ونفايات المقاهي والمنتجعات الصيفية، تتعارك مع السيل، متحدية جرفه لها نحو البحر، دون فائدة تذكر.
يغريها ضجيج وصخب النهر، كما يغريها صخب الحياة، التي خاضت غمارها سنوات،
وسنوات. بعض الصخوريغلبها الفيضان، أيضا، ويدفعها بقوة على امتداد مجراه الهادر. الطحالب والسراخس تغفو بغنج على أنغام الهدير. تترقرق أشعة الشمس بين أوراقها النضرة اللامعة، فتزيد المنظر بهاء. طيور الحوم تحوم في الفضاء، تعتلي الجبال والتلال، وتهبط في
طيرانها لتقارب النهر، وتحط قليلا فوق أغصان الحور والجوز والدلب، المشرئبة، لتعاود
طيرانها شبه الدائري، وتطلق صيحاتها المميزة، قاق. قاق. قاق. معلنة استمرار العاصفة. رفوف من العصافير الصغيرة تزقزق فرحة، وهي تتنقل من غصن إلى غصن، جوقة تعزف أعذب الألحان، والسمفونيات الطبيعية الرائعة. غيوم تروح وتجيء، مشكلة لوحة من لفائف القطن، تنشر ظلالها فوق التلال والجبال والسهول، وفوق النهر، قطعان من خراف السماء.
أيقظها من شرودها البهيج، صوت هدير يشبه الرعد المتواصل، أو دوي طائرات حربية، كثيرا ماتحلق على ارتفاعات منخفضة، تتخفى بين الجبال، لتصل هدفها، وتعود سالمة. لم تمض سوى برهة قصيرة حتى اتضح الأمر. ارتعبت وهي ترى فيضا جارفا ينقض نحوها، فقد ذابت بعض ثلوج الجبال العالية، وأردفت النهر المتدفق، لم تدر كيف تنقذ نفسها من هذا المارد الهائج، سوى شجرة دلب ضخمة عالية، تسلقتها بسرعة البرق، ترعبها انزلاقات قدميها عبر الأغصان المحاطة بالأشنيات، وأسرعت من عز الروح الخائفة من الذوبان والتلاشي، تمسكت بأقوى الأغصان، وهي ترتعد بردا وخوفا مفاجئا، تجحظ عيناها وهي ترى المياه الهادرة تحتها، ترتفع بالتدريج، حتى تلامس قدميها الحافيتين، صرخت صرخات متتالية ومتطاولة: يا الله…. يا الله… أنقذني يارب. مياه السيل تزعزع تماسكها، وتكاد تسقط في ذلك الخضم المرعب، يا الله.. يا الله…. يارب..
صرخت بقوة أكبر، عندما سمعت صوت زخة رصاص قريب، آخ… يا الله.. يارب.. – هيييي…. لاتخافي يا ابنتي أنا قادم.
لم تجرؤ على الالتفات نحو الصوت الآدمي الذي اخترق صاحبه عباب الماء، واندفع نحوها متسلقا شجرة الدلب، شعرت به يقترب، وبشبه التفاتة رعب، لاحت لها ملامحه.
– تمسكي جيدا، ولاتخافي، هاقد وصلت. من أين أتى بك الله، مستجيبا لرجائي؟.
– أنا الرائد أحمد. بدأ السيل ينخفض تدريجيا، مبتعدا عن قدمي أفنان.
أحاط الرجل خصرها بقوة، وهبط بها بشجاعة ضابط في الجيش الذي مازال يستبسل في إنقاذ الوطن. فتح باب سيارة الجيب الخضراء المموجة، وصعد بها نحو بيتها في سفح الجبل، وعاد بسرعة إلى قطعته، محفوفا بالدعاء.

________________

المريقب في 29/1/2022م