وداعًا أبا أمين…

 بقلم : العميد أنور يحيى*         

 

 

 

إلى العميد الصديق خضر قبيسي

 تعود بي الذكريات إلى يوم 22 أيلول 1971، حين التحقنا بالمدرسة الحربية ، بصفة تلميذ ضابط في قوى الأمن الداخلي. تشاركنا الغرفة عينها للإقامة طوال السنة التي أمضيناها من ضمن البرنامج المقرّر، بكل عذاباته ، في تلك الأيام!. تعرّفنا إلى الحياة العسكرية سويّاً ، وانتقلنا إلى مجتمع جديد، يرتكز إلى مبادىء الشرف والتضحية والوفاء.

 تخرّجنا سوياً في الأوّل من اّب سنة 1974، في زمن سلطة الدولة اللبنانية القوية، ثم تابعنا دورة مسلكية في معهد قوى الأمن الداخلي، في محلة الجعيتاوي في الأشرفية، لستة  أشهر، وقبل الانتهاء منها، كانت قد بدأت الحرب اللبنانية يوم 13 نيسان 1975، وتفرّق ضباط الدورة ، لمتابعة التدرّج في الفصائل الاقليمية، والتي لم تطلْ، بسبب توزّعنا إلى المجموعات الأمنية المشكَّلة من القيادة ، والحياة بين مسلحي الميليشيات، بهدف ضبط وقف إطلاق النار بين الجبهات ، والمحافظة على حياة الناس وممتلكاتهم .

كانت من أصعب المهام وأدقِّها أن نقارن بين قيم تربينا عليها، وبين تصرّفات مسلحين نراهم يقتلون وينهبون ونسمعهم يشتمون الدولة، ونحن نُمثلها بينهم، ونبقى صامتين، نتحمل بحسرة ، وعلى تماس معهم وفقا لتعليمات الرؤساء!

 فُصِلَ فقيدنا إلى بعلبك لحوالى السنتين، وقاسى في خلالها بُعد المسافات عن منزله في حارة حريك، حيث ولد وعاش في كنف والد فاضل وأمٍّ حنون، وكان هو الولد البكر وعليه مسؤوليات عديدة، تابع مشاكلهم،لا سيما بعد أن توفي والده باكرًا، وكان نعم الناصح والداعم للجميع، ثم ما لبث أن التحق شقيقه محمد بالمدرسة الحربية، بصفة تلميذ ضابط في قوى البر، حيث ترسّخَت مفاهيم المواطنة الصادقة، وكان الولاء للوطن وللقيم الأخلاقية مسار حياة الضابطينخضر ومحمد.

 تزوّج باكرًا من السيدة غادة القماطي، شريكة حياته، والداعم الأوّل له بتنشئة ثلاثة صبيان أنعم الله بهم عليهماأمين، ربيع ومحمد، وكانت من أهمّ نعم المولى وعطاياه.

عاش عزيز النفس، قريباً من الناس، لا حواجز بينه وبينهم، أبوابه مفتوحة دائماً ، في المكتب، في المنزل، في أيّ مكان، لسماع شكاواهم وحاجاتهم، فيندفع للمساعدة، حتى ولو كانت الخدمات المطلوبة بعيدة عن اختصاصه.

 عمل سنوات طويلة في مرفق الشرطة القضائية، فأمضى ثماني سنوات في مفرزة زحلة القضائية، وعاش في رياق قريباً من مقرّ عمله ، ثمّ نُقِلَ إلى مكتب حماية الاّداب في قسم المباحث العامة، في حبيش، ثمّ عمل اّمرًا لمفرزة بيروت القضائية الثانية، ليُنقلَ بعدها إلى رئاسة  قسم المباحث الجنائية الاقليمة، وينهي مهامه قائدًا لمنطقة الشمال الاقليمية في وحدة الدرك، والتي خدم فيها أكثر من سنتين بجدارة تامة.

 كان لطيفاً ولائقاً في التعاطي مع أسرة قوى الأمن الداخلي، لا سيما مرؤوسيه، قريباً منهم، متواضعاً، يستمع إلى مشاكلهم الاجتماعية : حاجاتهم للمال لدفع أقساط المدارس، دخول المستشفى للمعالجة، وجود مشاكل صحية وعاهات وإعاقات ضمن أسرة المرؤوس، يعمل بكلِّ جهد للمراجعة والمساعدة بتقديم العون، فكسب ثقة مرؤوسيه ومحبتهم، قبل اكتساب السلطة عليهم بحكم القانون، وحاز على ثقة الرؤساء والقيادة، ولم يُلاحَق يوماً بجرائم الفساد أو استغلال السلطة.

تولى أفضل المواقع في قوى الأمن الداخلي، تبعاً لكفاءته ومسلكيته الجيدة.

 نال العديد من الأوسمة والمكافآت والتهاني من الرؤساء تقديرًا لإنجازات قدّمها.

كان صديقاً وفياً لكلّ رفاقه، وشكلت أسرة قوى الأمن الداخلي عائلته الكبيرة، التي عاش فيها قرابة 38 عامًا، بصحة وعافية مع أسرته الكريمة. اعتلت صحته منذ عام تقريباً ، ولم تبخل المديرية العامة بتقديم أفضل العلاج له ، حتى. قُضِيَ أمر الله وتوفي بتاريخ 24 كانون الثاني 2022.

 التقينا قبل شهرين من وفاته مع العميدين الصديقين:محمد حمية وخليل أبو راشد، على غداء في الحمام العسكري، وكانت صحته تراجعت ويقوم بغسل الكلي ،لأكثر من مرّة أسبوعياً، لكنّ معنوياته كانت عالية، وكان متكلاً على الله والثقة بالعلاج الذي يتلقاه، وكان ذلك اللقاء الأخير.

 إننا نعزّي أسرته الكريمة، ونتقبل التعازي كرفاق له، وكنا نتمنى أن تسمح الظروف الصحية المأزومة ، في ظلّ تفشي وباء الكورونا الخطير بين الناس، مما يحدّ من حركتهم، وأن ُيقام له أسبوعٌ يعدد فيه من عرفه بعض خصاله الحميدة ومواقفه الوطنية، لكنّ للضرورة أحكامها!

 رَحمك الله يا رفيقنا خضر، وأسكنك فسيح جناته . سيبقى ذكرك خالدًا بين من عرفك واستنجد بك وقت الضيق، كنت خير مسعف، تجود دون منّة، بتواضع وإنسانية، وكافأك الله بعائلة طيبة تستحقك ولن تنساك أبدًا. وإنّا لله وإنَّا إليه راجعون.

——————————

                                                              

قائد سابق للشرطة القضائية

 

رمون، في 2/2/2022