المواطن البقرة …

 

 

 

بقلم : د. محمد إقبال حرب*

من طبيعة البشر التهام اللحوم الحيوانية على أنواعها منذ ما قبل التدوين، ومع ذلك لم نسمع، بل لا نتوقع أن تعترض بقرة أو شاة على ذبح أحد أفراد قطيعها. ولا يتوقع أحد أن ينطحه ماعز لأن الإنسانالتهم بني جلدته. فالموت والفناء سنّة حياة الكائنات التي تتغذى على بعضها البعض. ومع ذلك لا نجد حيوانًا يتغذى على نوعه.

ولأن لحم الحيوانات يحمل قيمة غذائية عالية يهتم البشر بتربية الحيوانات بنظم علمية متطورة أو متوارثة ليستفيدوا منها قدر المستطاع، فلا تُرمى قطعة لحم أو أي من منتجات الحيوانات إلا بشق الأنفس يتبعها ندم شديد. ومن فقد بقرة، بل دجاجة يندبها كقريب عزّ عليه فراقه كونها مصدر غذاء أساسي، بل دخل عائلي في كثير من الأحيان.

نفس ذاك البشري الذي يقدّس الوجود الحيواني لأنه سبب أساسي في بقائه على قيد الحياة يتعامل مع اللحم البشري بإهمال وقسوة شديدين دون رادع أخلاقي أو انساني رغم قدسية وجوده التي نادت بها الأديان.

باسم الحرية يقتل البشر بشراً، باسم الاصلاح والدفاع عن النفس يذبح البشر بشراً، وفي سبيل الدفاع عن الله يفني البشر اخوانهم وكأنما الله ضعيف يستنجد ببنادقهم وسكاكينهم ليصدوا عن كرسي عرشه. باسم الله والوطن يقتل البشر بعضهم بعضًا، باسم الشرائع تفنى حضارات. والغريب ان الذين يتاجرون بدماء البشر يرعون جمعيات الرفق بالحيوان. اذ يمكنك ان تقرأ اخباراً يومية في صحف الغرب خاصة عن مأساة كلب او قطة فيتفاعل معها الجمهور ويكتبون الاحتجاجات بقلب صادق، لكنهم عندما يرون اسلحتهم تفتك بالبشر وتهدم بيوتاً ومدناً ودولاً يصفقون فرحًا وابتهاجًا لمن اعتبروه عدوًا.

باسم الكهنة يذبح الانسان أخاه. وباسم الفناء يسقط طفل اخر ويدوس جندي رقبة طفل بريء من دون الشعور بالذنب. تغتصب النساء بدعوة من قائد عسكري يحافظ على نسائه أو فتوى رجل دين يحب الله حدّكراهية البشر. تُحرق قرى، تُباد حضارات وتسيل الدماء فيما بشري آخر يستمتع بسيمفونية القضاء على منافس له في استهلاك وقود الشمس. تُرمى جثث البشر في القمامة فيتقاتل عليها الذباب الأزرق مع الذباب البني فيما يحافظ هذا القاتل وذاك على كيلو لحم بقري في الثلاجة خوف العفن.

لحم المرأة الذي يجده الرجل شهياً لا يتورع عن تعذيبه بطرق لا تحصى من العنف وسوء المعاملة حد التعذيب والضرب والاذلال. ينظر الرجل الى المرأة نظرة الطريدة التي لا بد من الفوز بها ومتى فعل يتعامل معها كعدو يبتزه باستعبادها جنسياً وجسدياً ويسلبها مالها. يحد من تصرفاتها التي يعتبرها غير لائقة فيما يحلل لنفسه ما حرّم عليهامتخذاً من الدين والقانون وقوة عضلاته أقنعة مخيفة يبرزها في وجهها كلما دعت الحاجة. استهلاك لحم المرأة لا يتوقف عند حد كما لا يتوقف عن شراء كيلو من اللحم الحيواني ليشبع جوعه. بل يريد من البقرة البشرية تجديد لحمها كل يوم، مع مطالبته لها بإضافة بهارات الحب والحنان ليستلذ بالوليمة. وبعد ذلك وانصياعاً لجبنه يخاف ان يقترب منها أحد فيشاركه طبقها فيحد من علاقاتها الاجتماعية. يحجر عليها فكرها ويعاملها كعبدة عليها أن تخضع لقوانينه والغريب أن جميع من حولهما يساندون القانون الذكري حتى رفيقاتها في الأنثوية. فمتى شاء ضربها أمام ذويها الذي يباركون له تشذيب نشاذها وشذوذها ليضمن لها دخول الجنة فتُسرِّي عنه في السماء كما في الأرض مستعينا بأدلة دينية اجتماعية ودينية يسيء تفسيرها فيرجمها بها حتى الممات.

ولا زالت تجارة البشر أكثر التجارات ربحًا. فلقد بيع الرجال والنساء بدراهم معدودات لا تشتري نعجة. وتم اهداء النساء للمحاربين الذين منعت عنهم لحوم الدجاج لغلاء سعرها. وما زال الانسان يقتات على جثث الانسان الآخر ليشبع كراهيته لنفسه في وليمة لا تشبع فيه الشياطين ولا ترتوي أملاً في أن تكون قرابين خلوده المقيت.

يجد الإنسان ألف وسيلة ليُمجد من قتل انسانًا، فكلا الطرفين المتقاتلين يُنصب قتلاه شهداء، وينعت قتلى غريمه بالعدو. تسيل دماء الطرفين من جزّارين محترفين يسميهم أبطالًا، ويزداد عدد الثكالى والأيتام حول العالم متفاخرين بالبطل الذي أهداهم وسام شهادته ليفخروا به مدافعًا عن الوطن.
ويبقى لحم ذاك الإنسان الذي يتربى في مزارع الوطن أرخص أنواع اللحوم. بعضهم كالبقر الدنماركي يلقى رعاية خاصة والبعض كبقر السودان واثيوبيا الذي لا يجد قوتًا أو مأوى. مهما كان حال البقرة سينتهي بها الأمر إلى سكين الجزار ليقطّعها اربًا تدر على سيدهاأضعاف كلفتها. المواطنالبقرة يجتاح العالم العربي، وجزّاره لا يكترث بطريقة ذبحه أو بيع أعضائه، فبيع البشر يتم بالجملة ضمن سعر جماعي لا يفرق بين نوعيتهم. قتل البشر في مزارعهم هو الوحيد الذي لا يخضع إلى قوانين الطائفية أو تمييز في الأسعار فأصحاب المزارع متفقون أن المواطن البقرة سلعة لا يحميها الختم الطائفي أو يصد عنها كينونتها الإنسانية.

لا مساومة أو جدال في سوق لحم المواطن الذي قدّم نفسه لسيده مقابل علفه. فالبيع بالجملة، بيع قطيع كامل لأي نخاس من خارج الدولة أو داخلها. بل عندما يكون التاجر متخصصًا بلحوم طائفة ما، أو اثنية معينة يُكريها لفترة ما لفريق آخر خاصة عند الاستحقاقات الوطنية كالانتخابات والاستفتاءات. وهذا النوع يجمع بين الرقيق والنخاسة إذ أن صاحب المزرعة يساوم أكثر من فريق في آن في نفس الوقت الذي يساوم فيه سفارة ما ليضاعف ربحه ويحتفظ بالقطيع الذي لا يكلفه أكثر من علف رخيص خال من أوبئة المعرفة والوعي.

الشعب الذي يرضى أن يكون سلعة كأي نوع من الماشية يستحق الموت، ففي الموت رحمة لا يدركها العبيد.

——————————

* أديب وروائي لبناني