هل تندلع “الحرب المرعبة” بين روسيا وأوكرانيا ومَنْ مَعَها؟

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

لم يكن النسيم عليلا يوم 28 حزيران من العام الحالي عندما انطلقت اشرعة مناورات “نسيم البحر” Sea Breez في مياه البحر الاسود، التي استضافتها دولة اوكرانيا العضو السابق في حلف وارسو زمنٍ الاتحاد السوفياتي والمرشح الحالي للانضمام الى حلف شمال الاطلسي NATO. خمسة آلاف جندي و 32 سفينة حربية اضافة الى 40 طائرة مقاتلة وقاذفة بمشاركة 18 فرقة من كوماندوز النخبة ينتمون الى 32 دولة متحالفة مع الولايات المتحدة من ضمنها اربعة دول عربية “مصر والإمارات وتونس والمغرب” جعلوا منها الاضخم منذ تسعينيات القرن الماضي…


من مدينة “شتوتجارت” الالمانية مقر القيادة العسكرية الاميركية في اوروبا EUCOM اشرف الجنرال Tod D.Woters على سير العمليات الحربية، ومن العاصمة “كييف” رئيس اركان القوات المسلحة الاوكرانية الجنرال Valerii Zaluzhyni؛ والاخير عين حديثا بعد اقالة سلفه “روسلان خومتشاك” General Ruslan Khomchak على خلفية تضارب الصلاحيات لا بل النزاع بينه كقيادة عسكرية ووزارة الدفاع كقيادة سياسية.. ..
المناورات التي استمرت على مدى اسبوع شكلت بديهيآ عرض عضلات لقوى التحالف الاميركي- الاطلسي في البحيرة الروسية، مما رفع درجة التوتر بين موسكو من جهة وواشنطن ودول الناتو من اخرى، ترافقت مع حدة في التصريحات وتبادل التحذيرات مع بيان المحظورات، الى درجة اعتبر الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي في حينه ان الحرب وشيكة متهما روسيا بالتحضير لاجتياح بلاده..!

سبق “نسيم البحر” مناورة “مدافعوا اوروبا 21” Defender Europe 21 الاميركية- الاطلسية شهر نيسان الماضي انطلاقا من دولة صربيا.. كما شهد شهر ايلول الماضي ايضا اخرى عسكرية اميركية- اطلسية- اوكرانية مشتركة Trident Rapid “ترايدنت: الرمح ذو الثلاث شوكات- سمة الاله الاغريقي نبتون” استمرت اسبوعين في بقعة التدريب “يافوريف” Yavoriv بالقرب من مدينة Lviv غرب اوكرانيا المتاخمة للحدود مع بولندا..
في نفس السياق؛ بصرف النظر عن عرض جدول المناورات المتضادة الروسية- الاطلسية لا سيما تلك التي تجري في منطقة الاشتباك “دول شرق اوروبا” المتاخمة للحدود الروسية، حيث تشكل اوكرانيا راس الحربة. فان المناورات المشتركة بالمطلق “لا تهدف الى رفع مستوى التدريب والجهوزية فحسب بل تعزز ايضا “اتساق” Consistency القوى العملانية”.. ومن المؤكد ان استراتيجية الثلاثي الغربي في اعتباره روسيا العدو الاول، فان هدفه الاوحد المرحلي تشكيل جبهة عريضة بوجهها تفرمل استراتيجية الرئيس بوتين القائمة على استكمال الخارطة الكيانية السوفياتية جيوسياسيا او ميدانيا، كما تثبت من خلالها واشنطن التزامها العسكري مع الاتحاد الاوروبي وتزيح عنها تهمة او نوايا التخلي عن الحلفاء سواءً الانسحاب او تقليص حجم القوى ..

في سياق الرسائل المتبادلة على ارض الميدان “مناورة مقابل مناورة” اعلنت وزارة الدفاع الروسية اول من امس الاربعاء عزمها على تعزيز قواتها المسلحة لمواجهة “تنامي نشاط” Growing Activity الحلف الأطلسي عند حدودها الجنوبية- الغربية، وذلك بالتزامن مع اطلاق المناورات العسكرية الشتوية السنوية او الدورية، في المنطقة الجنوبية المتاخمة لاوكرانيا التي تضم شبه جزيرة القرم واقليم “الدونباس” المتنازع عليه..
اكثر من عشرة آلاف جندي من الوية المشاة المؤللة انتقلوا خلال ٢٤ ساعة إلى مواقع التدريب في جميع أنحاء المنطقة الشاسعة، فيما عبرت Kiev عن خشيتها واستعدادها لمواجهة الغزو الروسي الوشيك المحتمل، مشيرة إلى تحركات غير عادية للقوات الروسية بالقرب من حدودها..
بالتوازي مع المحادثة الهاتفية بين رئيس الاركان الروسي “فاليري يراسيموف” ونظيره الاميركي “مارك ميلي” تناولت “قضايا حالية متعلقة بالأمن الدولي” وفق ما اعلن، انعقد يوم الثلاثاء الماضي اجتماع دول حلف شمال الاطلسي بمشاركه وزير الدفاع الاوكراني رغم عدم موافقة قيادة الناتو على انضمام بلاده للحلف “اثر تحذير روسي يعتبر انضمام اوكرانيا الى الحلف الاطلسي خطآ احمر”.. خصص الاجتماع للبحث في الازمة المتفاقمة والوضع المتوتر على الحدود مع عرض لسيناريوهات المواجهة المحتملة. في نفس الوقت علق الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” على ما يجري: “إن بلاده مستعدة كلياً لتصعيد عسكري محتمل مع روسيا بعد نشرها قوات جديدة بالقرب من الحدود الأوكرانية”.. مديناً “أعمال ترهيب تمارسها موسكو توحي بأن الحرب وشيكة”.. وفي دلالة من موسكو غير اعتباطية اتى الرد من مصدر امني لا سياسي ل مدير جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي “سيرغي ناريشكين” نافيا التخطيط او التحضير لـ”اجتياح أوكرانيا”، معتبرا الأميركيين يرسمون صورة مخيفة لحشود من الدبابات الروسية التي ستبدأ سحق مدن أوكرانية..!

من جهة اخرى، نشطت الحركة “التويترية” Twitter movement لتثير غبارا يوازي ما تصدره جنازير المدرعات، تزامنت وتساوت مع آراء كثر من محللين وسياسيين محليين واقليميين عبروا عن قناعة اندلاع حرب وشيكة روسية- اوكرانية تكرس فرضية الغزو.. بالمقابل واظب الكرملين على تكتيك انهاك الخصوم في خضم كر وفر سياسي مع وفرة في التصريحات، بما يضفي غموضا حول نواياه.. في حين تابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراءة المناخ الدولي والحراك الميداني المتسارع، واستنادا لما مارسه خلال فترة قيادته روسيا فإن اتقانه صناعة المعادلة الجيوسياسية تؤكد عدم وجود خطر حقيقي يدفع نحو شن حرب وقائية ولو محدودة؛ لا سيما بعد ان تحقق له عبر جس النبض العسكري “المناورات” مدى ودرجة كفاءة الاستعدادات العسكرية للخصوم.. اذ طغت الشرذمة السياسية وتتالت الاعتراضات لجهة مؤازرة اوكرانيا والخوض معها او لاجلها مواجهة عسكرية، لا بل ان انقساما ظهر جليا وبصورة خاصة من ساسة اليسار الاوروبي وبعض دول “الناتو” رفضا لاي تدخل عسكري ..! وفي حمأة التوتر المتصاعد ثبت ايضا فشل الاستدراج الاوكراني لاميركا وحلفائها نحو حرب اقليمية مع موسكو، بدلالة حجم الدعم الاميركي “المتواضع” الذي عُبِر عنه بالاعلان عن تزويد اوكرانيا بزورقين حربيين كانا تابعين لخفر السواحل الاميركي، اعيد تجهيزهما لتعزيز البحرية الاوكرانية ودعم عملياتها في البحر الاسود.


تاليآ؛ في المعادلة الاستراتيجية، رغم ان الرئيس بوتين يعتبر ان هذه المناورات تمثل “تحديا جديآ” لروسيا و “لعبآ بالنار”.. فان “الواقعية الدفاعية” Defensive Realism تعني التمسك بالمناطق والخطوط والمواقع مع زيادة الامن وتعزيز القوى لكنها لا تفرض حاليا خيار المواجهة الهجومية لجملة اسباب اهمها:
ان لا تجاوز او خروج عن قواعد الاشتباك حتى الآن..
ان البحر الاسود ذو الاهمية الاقتصادية والاستراتيجية
في مجال الطاقة والتجارة والامن سيبقى الحديقة الخلفية لبلاده ولا مساومة في هذا الامر..
ان تحركات القطع البحرية الغربية تبقى تحت سيطرة اسطول الغواصات النووية المتمركزة في شبه جزيرة “كولا” Kola Peninsula أقصى الشمال الروسي..
ان القوات البرية الاطلسية والاوكرانية اضعف من ان تواجه الوية الانزال الجوي التكتيكي ذات الدرجة العالية من الاستقلالية والتكاملية مع قدرة نارية عالية.
اما السبب الاهم فتحقق بهزيمة الولايات المتحدة لفشلها في اعاقة مشروع خَطَي انابيب الغاز North Stream 1/2 اللذان يغذيان جزء كبير من اوروبا عبر المانيا بعد انجازه ومباشرة العمل به..!

استطرادا، سبق واعلن الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب ان بلاده وان كانت الحاضنة السياسية والعسكرية لاوروبا الا ان ذلك لا يعني الانغماس غب الطلب في مواجهة مع القطب الروسي، معروفة البدء مجهولة الانتهاء مرعبة النتائج.. هذه الاستراتيجية انتقلت تلقائيا الى الرئيس الحالي جو بايدن كونها تدخل في لائحة محظورات البنتاغون.. مما عزز المخاوف والشكوك بشراكة ضفتي الأطلسي عسكرياً ودفع برلين وباريس إلى التركيز على الدفاع الأوروبي الذاتي لجهة بناء “الجيش الاوروبي الموحد”، دون الحاجة الى الحماية الأميركية، وهذا ما يتبلور في حجم الموازنات المالية المرصودة للانفاق على تطوير البنى العسكرية والتصنيع الحربي ..

اخيرا؛ لم يعد من الضرورة سواءً في الاسباب او النتائج ان يؤدي الصخب الديبلوماسي الى الاهتزاز الامني،
لا بل ان تصاعد لهجة الغرب بالتوازي مع ضجيج المناورات العسكرية المتبادلة يبقي التداعيات ضمن الخطوط المرسومة المسموح بها.. وفي حين تتعرض موسكو لضغوطات متنوعة سواء عبر اشغالها بتنقل الازمات واشعال الجبهات او من خلال العقوبات الاقتصادية حال تبريدها، فهي تتعاطى مع الاستفزازات ضمن هوامش ادارة النزاع مع تثبيت الحقائق والمكتسبات على الارض، لا سيما بعد التحالف الوثيق العسكري والاقتصادي مع الصين، مما جعل 2.5 مليون صيني على القوس الآسيوي بمواجهة الشواطىء الشرقية للولايات المتحدة.. في النتيجة اوراق اللعب الخشنة تكفي الاطراف جميعا ومسلك التفاوض يفرض حكمة وعقلانية لمواصلة اللعبة بعيدا عن لهب صلف او غرور قاتل..!

————————

بيروت في 04.12.2021

.