نهاية الانقاذ … قراءة هادئة في احداث السودان (1)

 

بقلم : علي عبد الرحيم*

 

حكم البشير للسودان قد انتهى هذا لا شك فيه، ولكن الثوار يحذرون أن يتسلل النظام القديم من فتوق الوضع الانتقالي غير المتماسك الى الدولة من جديد، أو يفلت الذين أجرموا منهم وخاضوا في مال الناس ودمائهم من الحساب، وفي سبيل ذلك فهم لا يبرحون اعتصامهم الذي أزال البشير ونائبه طمعا في أن تحقق مطالبهم الباقية. ولكن حتى نفهم كيفية جَسْر المسافة بين مطالب الثوار واستعداد المجلس العسكري لتلبيتها ينبغي أن نفهم طبيعة التغيير الذي جرى بالفعل، فاختلاف التصور في هذا الشأن بين الثوار وبين الجيش هو منشأ هذه الفجوة بين المطالب والتلبية.
الاقتباس أدناه من مقالي “السودان، آفاق غبشاء” الذي نشرته في سلسلة حلقات في مايو ٢٠١٤ في الشرق القطرية مع أجواء الحوار الوطني النافق، وكنت ساعتها أحسن الظن بكثير من الحذر في جدية التغيير الذي يمكن أن يحدث. أرجو أن يُقرأ هذا الاقتباس في سياقه التاريخي وسأعقب عليه في نهايته مع وضع بعض الملاحظات في النص بين ضلعين [].
الاقتباس:
“شكل المرحلة الانتقالية التي سيمر بها السودان سيعتمد كثيراً على نوع الانتقال وطريقة التغيير التي ستتم، وهذه بدورها ستعتمد على التصنيف السياسي لنوع النظام القائم الآن.
يقول عالم السياسة الراحل سامويل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات أن هناك ثلاثة أنواع من الحكم القهري: النوع الأول هو نظام الحزب الواحد كالذي كان في الاتحاد السوفييتي وكثير من الدول الشيوعية سابقاً وفي الصين حالياً (هنتنغتون لم يذكر الصين)، وأبرز صفات هذا النوع هو احتكار الحزب الواحد للسلطة فكل من يريد الوصول الى السلطة لا بد أن يمر عبر الحزب، كما أن الحزب يشرع لسلطته بالايديولوجيا.
النوع الثاني هو الحكم العسكري وصفاته أنه يقوم بالاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري ويمارس الجيش الحكم عبر المؤسسة العسكرية حيث يحتكر جنرالات الجيش المواقع التنفيذية في الحكومة. والامثلة على هذا النوع كانت في أمريكا اللاتينية وباكستان ونيجيريا وغيرها.
النوع الثالث هو حكم الفرد أو الديكتاتورية الفردية، وأبرز صفات هذا النوع هو أن الفرد الحاكم هو مصدر السلطة، والوصول الى السلطة – درجاتها دون الحاكم – يعتمد على المقدرة على الوصول اليه، أو القرب منه، أو بدعمه ورضاه. والأمثلة على هذا النوع تشمل البرتغال تحت انطونيو سالازار واسبانيا تحت فرانكو والفلبين تحت ماركوس.
أما أنواع وطرق التغيير فيقسمها هنتنغتون الى ثلاثة طرق رئيسية. الطريق الأول هو التحول (Transformation) وهو الذي يحدث عندما تقوم المجموعة الحاكمة نفسها بقيادة التغيير نحو الديموقراطية كما حدث في البرازيل واسبانيا. الطريق الثاني هو الاحلال (Replacement) ويحدث عندما تقوم المجموعات المعارضة للحكم بقيادة التغيير نحو الديموقراطية وينهار الحكم الشمولي أو يزاح عن السلطة كما حدث في الأرجنتين واليونان. الطريق الثالث هو التحول بالاحلال (Transplacement) حيث يكون العمل المشترك بين المجموعة الحاكمة والمعارضة هو السبيل نحو الديموقراطية كما في بولندا ونيكاراقوا. وكل هذه التقسيمات – يقر هنتنغتون – تحتمل التداخل سواء في أنواع الحكم القهري أو طرق التغيير نحو الديموقراطية، ويمكن مراجعة ورقته (How Countries Democratize) أو كتابه الشهير (الموجة الثالثة The Third Wave).
اذا أردنا تصنيف نوع الحكم الحالي في السودان لنستهدي به في نوع الانتقال المتوقع أو الأنسب فإننا نجد صعوبة. ف. ولكني سأرجح هنا تصنيف الحزب الواحد حيث أن الحكم العسكري أبرز سماته سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكومة وليس الأمر كذلك، وحكم الفرد يكون أبين اذا غابت السلطة عن الحزب الواحد والجيش وأيضاً فالأمر ليس كذلك، ولكن علينا أن نراعي الطبيعة المرتبكة للحكم في السودان عند بحث طرق الانتقال عنها. [ بعد اقالة الحرس القديم في المؤتمر الوطني أيام الحوار الوطني تكرست السلطة اكثر في يد البشير ما يدفع بالتصنيف ناحية حكم الفرد ولكن الدولة العميقة للإسلاميين لم تكن في طوعه بالكامل. لذلك فان تصنيف الحكم في السودان في تلك الفترة وحتى قيام الثورة هو خليط من حكم الحزب الواحد وحكم الفرد].
يقول هنتنغتون إن الحكومات العسكرية تنتقل الى الديموقراطية عادة بالتحول أو التحول بالاحلال (الطريقة الأولى أو الثالثة) حيث يقود العسكر الحاكمون التغيير بأنفسهم وقد يكون ذلك لأسباب مختلفة ولكنهم في العادة يشترطون على المدنيين قبل تسليمهم السلطة شرطين: الأول هو أن لا يلاحقوا قضائياً أو يحاسبوا على ما فعلوا أثناء فترة الحكم، الثاني هو تحتفظ المؤسسة العسكرية بامتيازاتها المهنية باعتبارها المؤسسة المسؤولة عن حماية البلاد وتنال بهذا الوزارات الدفاعية، وأيضاً الاحتفاظ بالامتيازات الاقتصادية للصناعات العسكرية. الموافقة على هذه الشروط تكون رهناً لمدى قوة الحكم العسكري أثناء التفاوض.
أما حكومات الحزب الواحد والتي تنتقل أيضاً الى الديموقراطية عادة بالتحول أو التحول بالاحلال (الطريقتان الأولى والثالثة) فإنها تتيسر عادة اذا غلب التيار الاصلاحي على المحافظين داخل الحزب الحاكم والمعارضة على حد سواء. ضعف الصقور في المشهد السياسي العام هو التمهيد الأول نحو الانتقال الى الديموقراطية. سيكون على السياسيين فك الارتباط بين الحزب والدولة حتى يتسنى الانتقال نحو ديموقراطية حقيقية، وسيشمل ذلك تفكيك المليشيات العسكرية للحزب إضافة الى مؤسساته الاقتصادية والاعلامية وكذلك العمل على محو آثار تسييس الجيش. أخيراً، فإن ديكتاتوريات الفرد تنتهي في العادة، يقول هنتنغتون، إما بموت الحاكم أو ازاحته عن الحكم قسراً.
عليه، فإن التغيير المتوقع سيكون عن طريق التحول (Transformation) أو التحول بالاحلال (Transplacement) بمعنى أن يتغير النظام نفسه الى نظام ديموقراطي أو يتم احلاله بالتدريج بالاتفاق مع المعارضة. وهنالك بوادر للطريقين تظهر الآن في الساحة السياسية السودانية فالذي ينظر للمؤتمر الشعبي باعتباره أبرز أحزاب المعارضة سيصنف مسار التغيير باعتباره تحولاً نحو الديموقراطية باتفاق بين الحكومة والمعارضة ينتهي باحلال نظام الحكم الحالي الى آخر ديموقراطي. والذي ينظر الى المؤتمر الشعبي باعتباره أحد أجنحة التيار الإسلامي في البلد سينظر الى التغيير باعتباره تحولاً في منهج الحكم يقوم به القائمون عليه – في هذه الحالة، الاسلاميون. كل هذا بافتراض صدق المسعى وجدّه.
هذان الطريقان هما بلا شك خير من الطريق الثالث وهو طريق الاحلال والذي يحدث إما بانقلاب أو ثورة أو عمل عسكري وهو إن حدث فسيقذف بالبلاد في هاوية غير معلومة القرار. [تصنيف هنتنغتون للثورة هو العمل الجماهيري المسلح وليس السلمي، ولكني سأستخدم كلمة ثورة لوصف حراك ديسمبر وأرجو ان يميز القاري بين وصفي ووصف هنتنغتون].
الشيء الذي لفت نظري في ورقة هنتنغتون هو أنه صنف ثورة أبريل التي أزيح فيها النميري عن الحكم باعتبارها تحولاً (الطريق الأول) بمعنى أنه تحول قام به النظام ليتحول من قهري الى ديموقراطي ولم يصنفها باعتبارها ثورة شعبية أو احلال. تفسير ذلك في تقديري هو أن هنتنغتون اعتبر أن الحكم المايوي كان حكماً عسكرياً وأن التغيير قامت به المؤسسة العسكرية، ففي هذه الحالة يكون بالفعل تحولاً داخل النظام الحاكم نحو الديموقراطية، تحولاً داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة، وذلك بغض النظر عن اختلاف الأشخاص الذي جرى داخل هذه المؤسسة، وهذا هو ما يمكن أن يفسر سلاسة الانتقال الذي حدث في أبريل85 وهو ذات الذي حدث في مصر يناير 2011، انتقال داخل المؤسسة العسكرية نحو نظام ديموقراطي، أما الثورة [الحراك الجماهيري في الشوارع والإضراب النقابي] فلا تعدو أن تكون أحد عوامل الضغط التي ساعدت على هذا التحول. هذا ما فهمته من تصنيف هنتنغتون وهو مقبول على ما به من علل.
سيناريو أبريل 85 هو السيناريو الأنسب للتغيير في الظرف السوداني الحالي. وقد شهدنا بالفعل حراكاً شعبياً في سبتمبر الماضي [2013] وهو غير ضروري على كل حال طالما ارتضى الحاكمون التغيير. وهو الأنسب لأن القوات المسلحة هي المرجعية القومية الوحيدة التي يمكن أن يرتضيها النظام الحاكم لبعده العسكري واحتياجه لضمانات خروج آمن. كما يمكن أن ترتضيها المعارضة والمواطنون باعتبار أن اشراكها في الأمر يرجح أن لا تخرج عليه وعنصر القوة فيها يضمن أن لا يُستغل ارتباك الوضع السياسي الانتقالي لصالح جهة سياسية غادرة. ويمكن للأمر أن يتم برئاسة عسكرية وحكومة تنفيذية مدنية على غرار ما كان بين سوار الذهب والجزولي دفع الله، والأفضل أن تتغير كل الوجوه فهو أجدر بالصدق في التغيير. ولكن يرجح أن يتعذر هذا فيكون أن تبقى القيادة الحالية للإشراف على التغيير بعد الإتفاق مع المعارضة.” انتهى الاقتباس.
الذي نفهمه من هذا التحليل وتسنده الوقائع هو أن التغيير الذي حصل هو مزيج من التحول والإحلال (النوعان الأول والثاني) والتي تتسق مع تصنيف نظام الحكم أنه كان مزيجا من حكم الحزب الواحد وحكم الفرد. فالذي أحدث التغيير هو قادة المؤسسة العسكرية والأمنية والذين كانوا من قيادات النظام السابق، ولكن الذي دفع الى إجراء التغيير ابتداء هو الضغط الجماهيري الكبير والذي نتج عنه أيضا التغيير الثاني الذي أطاح بابن عوف ونائبه. ولكننا نفهم أيضا من هذا التصنيف لِمَ حصل التغيير دون مواجهات مسلحة بين مليشيات النظام والجيش ولماذا لم ينزل الجيش على أفراد وممتلكات النظام السابق بالشدة. ولعله مع الأيام يظهر الكلام عن العدالة الانتقالية ومحاولة ايجاد مخارج آمنة لرموز النظام السابق في تسويات تسترجع الأموال وتسترد بعض الحقوق مقابل السلامة في الأنفس وتجنب السجون أو تخفيف آمادها.
هذا الأمر – إن صح التحليل – تعلمه قيادات الجيش والنظام السابق ولكنه يغيب على كثير من شباب الثورة الذين اعتصموا في مواقعهم يطلبون البديهيات لما يحسبون أو يرجون أنه انقلاب كامل في نظام الحكم: العدالة الكاملة، العزل السياسي، انتقال السلطة بالكامل الى المدنيين وغير ذلك. وكما ذكرت أعلاه، فهذه الفجوة بين مطلوبات الثوار وتلبية المجلس العسكري منشأها اختلاف التصور لما جرى من تغيير. لذلك فإن الحكمة تقتضي تنازلات من الطرفين وهذه أدعها للمقال القادم ولكن المهم الآن هو أن لا يضجر الجيش بعناد الثوار الشباب وإصرارهم على مواقفهم فيحاول فض اعتصامهم بالقوة فيقع في المحذور الذي اجتنبه أولا (يمكن أن ينحصر الاعتصام في طول الشارع الممتد بين النفق وصينية بري مع تهيئة مسارات بديلة لحركة المرور في الشوارع التي تجاور بوابات القيادة). فالحقائق الثابتة هي أن الثورة على الحق والنظام السابق على الباطل، والتسوية التي قد تجري في عملية الانتقال لا تعدو أن تكون من أجل تخفيف تكلفة هذا الانتقال في الأنفس والأموال والجهود، ولكنها لا تعني اطلاقا انقسام الحق والمبادئ بين الثوار والنظام السابق.
ونواصل.

————-

* كاتب وباحث سوداني