نهاية الإنقاذ.. قراءة هادئة في أحداث السودان (2)

 

علي عبد الرحيم*

 

ذكرت في المقال السابق إن التغيير الذي حصل في نظام الحكم في السودان هو مزيج من التحول (من داخل النظام) والإحلال (من خارجه) حيث أزاحت قيادات في النظام القديم البشير عن الرئاسة في عملية تغيير داخل النظام، ولكن هذا التغيير جرى بسبب الضغط الشعبي الهائل الذي توّج باعتصام الثوار أمام القيادة العامة للجيش.
هذا المزيج يتجسد حاليا في المجلس العسكري الانتقالي من جهة والثوار المعتصمين من جهة أخرى، وعوامل متعددة هي التي تحكم قدر المسافة بين مطالب الثوار الاحلالية واجراءات المجلس التحولية. من هذه العوامل: ارتفاع سقف الطموحات بعد ازاحة البشير والأمل في انتقال لديموقراطية كاملة، الاهتمام الإعلامي العالمي بعد تجاهل طويل، صراعات النظام الداخلية واستياء قاعدته الشعبية من الاسلاميين من التجربة بشكل عام، محاولات دول الإقليم تشكيل الوضع الجديد، وغير ذلك. ولكن من المهم أن يدرك الطرفان نظرة الآخر لطبيعة التغيير الذي جرى. ففي حالة التحول الداخلي للنظام أو بالاتفاق مع المعارضة يجري التغيير بالاتفاق على التسليم مقابل العفو حسب ادبيات العدالة الانتقالية، وينال العفو رأس النظام وربما يشمل أهله وقيادات نظامه، يضيق الأمر ويتسع حسب الموقف التفاوضي ساعة التغيير. أما في حالة الإحلال الثوري فان التغيير يعني انهزام النظام المُزاح ويُحال فيه أهله الى العدالة دون عفو مشروط. الذي يحصل عادة مع الأنظمة القهرية هو أنها في لحظةٍ ما تدرك أن استمرارها لم يعد ممكنا فتلجأ الى الاتفاق مع المعارضة على الخروج مقابل العفو كما حدث مع عبود في أكتوبر ١٩٦٤ وهو المعهود في أوقات الانتقال السياسي السلمي من العسكري الى المدني، وفي هذه الأحوال يجد البلد أنه بحاجة الى أن يتجرع الصبر لقبول مثل هذا العفو عن طاغية ظالم ويكتفي بعدالة منقوصة يُجريها على قيادات دون الأعلى. ولكن البشير عَمِيَ عن كل السوانح لخروج آمن فخرّ على وجهه في الساعة الحاسمة. هذا يعطي ميزة كبيرة للثورة السودانية كون رأس النظام والمسؤول الأول عن جرائمه سيخضع للعدالة. ولكن هذا لا ينفي أن اتفاقا قد تم لتغيير النظام ما يستلزم عدالة منقوصة في مستوى أدنى وهو ما يفسر وجود نائب البشير ومدير مخابراته في بيوتهم، ويفسر كذلك كون المجلس العسكري الذي بيده السلطة الآن كان جزءً أصيلا من النظام السابق والراجح أنه سيتمسك ببعض السلطة وكل القوة ليضمن الحصانة أولا ثم لبواعث أخرى ربما كالطموح أو إملاءات داخلية أو خارجية. ولكن يبدو أن أعضاء المجلس العسكري لا يملكون – خلا ما يخص حصانتهم – موقفا حازما تجاه القضايا التي بين أيديهم فهم استولوا على السلطة في ساعةٍ فارقة وليس لديهم خطة متكاملة لأمر الحكم في هذه الظروف الحرجة وهو ما يجعلهم عُرضة للتأثير والضغط كما أنه يجعل مواقفهم في إدارة الدولة غير متناسقة من حيث ماهية تفويضهم.
أما بالنسبة للثوار فالمشكلة الواضحة والمتوقعة التي تواجههم هي انقسامهم على أنفسهم متى سقط العدو المشترك. فقوى إعلان الحرية والتغيير تحمل لونا سياسيا لا يجمع كل الثوار وتصورهم لمرحلة الانتقال وما بعدها عليه خلاف كبير. هذه الخلافات بدأت تتصاعد الآن بعد أن استدعى الناس أيديولوجياتهم وقد عظّمتها اللحظة الثورية وسانحة تشكيل المستقبل. كذلك، فالاعتصام أمام القيادة بات يضعف كقوة محدِثة للتغيير ليس لانخفاض عدد المعتصمين – وهذا سيحصل لعوامل عديدة أهمها شهر رمضان – ولكن لتطبيع حياة الخرطوم عليه بعد أن زال خطر العنف. أتوقع أن تفتح الجسور الى بحري ويبقى شارع القيادة للثوار المعتصمين ما شاؤوا البقاء. هذا التطبيع لسير الحياة اليومية – والذي سيحدث حتى لو ظلت الجسور مغلقة – يُضعف من قوة الضغط التي كان يشكلها الاعتصام على الجيش للاستجابة للثوار. فما الذي يملكه الثوار سوى الاعتصام ليفاوضوا به العسكر؟ الاعتصام الآن يشكل رمزية لاستمرار الثورة ومسارها نحو التغيير بمعنى أنه يبقى ببقاء مطلوبات التغيير، وفي ذلك فهو لا يزال ضروريا، ولكن لا بد أن يشكّل الثوار وسائل جديدة للضغط لإنجاز تلك المطلوبات لأن انزعاج العسكر من الاعتصام يتلاشى بسرعة. وموقف الثوار يزيد ضعفا بسبب انقساماتهم والتصدع الذي بدأ يظهر في مثاليات الثورة بازدياد حالات التعدي على الناس تشفيا وتحريرا لغيظ النفوس وحنقها ما قد يُزَهِّد العاقلين في الأمر كله ليبقى في أيدي عامة هائجة، والذي حدث في قاعة قرطبة دليل على نذر الشؤم التي يحملها مثل هذا المسار.
رغم كل ذلك فالثوار لا يزالون يملكون السلاح الأقوى في المعادلة حتى الآن، ذلك أنهم أصحاب الحق. وهذه الحقيقة رغم أنها أمر معنوي لا يقاس في ميزان القوة والضعف التفاوضي بشكل مباشر الا أن تجلياتها في الواقع شديدة الأثر، فهذه العقيدة الراسخة للثوار أنهم أصحاب الحق هي ما دفعتهم لمواجهة الموت طوال أربعة أشهر بصدور عارية، وفي جوهر الأمر، هذا هو ما أسقط نظام البشير. ولكن على الثوار أن يطوروا أساليبهم السلمية في الضغط على العسكر لأن امتناع العسكر عن العنف تجاه الثوار يبطل حالة التوتر داخل الجيش ويعيد اليه لحُمته الأساس وتراتبيته الصارمة، ولن تسقط حكومة دون موافقة الجيش.
إحدى أهم هذه الوسائل هي إيصال الثورة الى نوافذ الرأي العام والعمل على ’تطبيع الحرية‘ في الحياة السياسية للمجتمع السوداني. من غير المقبول أن تظل وسائل الإعلام التي تنقل وتشكل الرأي العام بعد الثورة هي ذات النوافذ التي كانت في خدمة النظام السابق. والكُتّاب الذين كانوا يدافعون عنه يصبّون الآن حنقهم على الثوار ونجاحهم في إسقاط ربيبهم وولي نعمتهم بالوسوسة في آذان العسكر همزا وتحريضا. هذا عهد جديد خصيصته الأولى هي الحرية، وحري بالذي يكتب تعبيرا عن الرأي العام أو حفزا له أن يكون حرا يمثل الأحرار. الأفذاذ الذين يجيدون تشكيل الأفكار ينبغي أن لا يكتفوا بوسائل التواصل الاجتماعي كونها تخلط الجد بالهزل ولم تزل خارج دوائر قياس الرأي العام عند أصحاب السلطة. ينبغي أن تتبدل الخطوط التحريرية للصحف والقنوات الى الطرق المباشر والمستمر على مطلب الشعب الاول: الانتقال الى الحكم المدني بأسرع وقت. وإذا كانت رؤوس الأموال التي تملك هذه المنافذ الإعلامية في ضلالها القديم لن يعدم الناس بعض المنافذ الحرة والتي أضعفها النظام السابق لمخالفتها إياه؛ هذا أوان مكافأتها. حبذا لو توجهت نحوها كل الأقلام الفذة والتي تعبر عن وجدان الشارع الآن. والشباب الذين يحذقون الكتابة ولكنهم يحصرونها على وسائل التواصل الاجتماعي، آن الأوان أن ينقلوا هذه المساهمات الى فضاء الإعلام التقليدي بالكتابة في الصحف والحديث في الإذاعات وقنوات التلفزيون بل ومنابر المساجد كذلك. هذا هو الصوت الذي يسمعه أهل الصولجان وهو جدير بأن يعكس الحقيقة.
تطبيع الحرية يمتد ليشمل رفع الوعي عند الناس بحقوقهم كمواطنين يمثلون المرجعية الأساس للحكم. لا بد أن يدفع الناس دفعا تجاه تناول الشأن العام باعتبار المجتمع السوداني مجتمعا حرا وأن يكتبوا عن ذلك باعتباره شأنا طبيعيا متجاوزين إرثا من ثقافة القهر امتد ثلاثين عاما. اذا شاع هذا المناخ في المجتمع بسرعة فإنه سيرفع من كلفة العودة الى الاستبداد بأي شكل أو درجة وهو أفضل رادع للعسكر إن طمعوا في الحكم، أما إن صدقوا في زهدهم فيه فهذا المناخ يحفزهم على التعجيل بنقله دفعا للمساءلة. معلوم أن ثقافة الحرية لا ترسخ في المجتمعات في أسابيع أو حتى سنوات ولكن رفع سقف الحرية الآن هو أفضل ضامن لها، وينبغي أن نعمل على تهيئة فضائها بإزالة رواسب القهر حتى تنبت بمهلها في تربة صالحة.
شهية شباب السودان الكبيرة للحرية هي الآن حصن الثورة الأول من أَي ردة عليها. لا أحد يتصور كيف يمكن لهؤلاء الشباب أن يعودوا الى بيوتهم بحرية منقوصة، لا يبدو هذا احتمالا واقعيا الآن. قد يفعل الزمن فعله ويصيب الناس الضجر والرهق ولكن هذا لا توجد له أَي علامات الآن وحماس الثورة اليوم هو كما كان في أعز أيامها. لذلك، فكل من يفكر في منع الثورة من بلوغ مرامها سيكون عليه أن يواجه هذا الواقع: ما لم يخض في دماء السودانيين خوضا فهذا الهدف مهزوم، والذي يجد عنده الاستعداد لقتل الناس سيجد ذات مصير البشير. خلاصة الأمر وبالمعطيات الحالية، الفائز هو الصبور!

*كاتب وباحث سوداني