مي زيادة الدرة اليتيمة (١) نابغة عاشت حياة مأساوية تستحق ان تروى..

الدنيا نيوز- دانيا يوسف

 

حياتها… قصة مأساوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. قصة امرأة اكتسبت شهرة في عصرها، بما كانت عليه من جمال وذكاء ونبوغ جعلها محور اهتمام المفكرين ومحط أنظار السياسيين. مي زيادة عرفت ب: الأديبة… النابغة… فريدة العصر… ملكة دولة الإلهام… حلية الزمان… الدرة اليتيمة… وغيرها من الألقاب التي تعكس قدر الاحترام والإعجاب اللذين حظيت بهما من كتاب عصرها… ولكن وبرغم كل هذا التوهج واللمعان في سماء الفكر والأدب… هل كانت أديبتنا سعيدة؟ هل أضاءت تلك الشمس المشعة حياتها أم أشرقت فقط في حياة الآخرين واحترقت هي؟ هذا ما سوف نعرفه من خلال حديثنا عن الأديبة اللبنانية مي زيادة….
ولدت ماري زيادة المعروفة ب”مي” في الحادي عشر من شهر شباط/فبراير عام 1886 من أب لبناني هو الياس زيادة من قرية “شحتول” الكسروانية، وأم فلسطينية هي نزهة معمر من بلدة الناصرة. تلقت مي مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة اليوسفيات في الناصرة ثم انتقلت مع أسرتها وهي في سن الرابعة عشرة إلى لبنان حيث دخلت مدرسة الراهبات في دير “عينطورة” في القسم الداخلي بين عامي 1900-1903.
وكان لحادثة دخولها في هذه المدرسة وجهان: أحدهما مشرق يرجع إلى اهتمام والديها بتعليمها، وما نجم عن هذا التعليم من ثقافة أحرزتها. والآخر قاتم مردّه إلى شعورها بالابتعاد عن أسرتها خاصة أنها لم تلق في المدرسة ما يعوضها مما فقدته من عطف الأهل.

وقد وصفت مي زيادة هذه المرحلة في كتابها “سوانح فتاة”: “شعور بأن الزمن يحطم الإنسان، ورغبة في الموت يرافقها توق إلى عالم مثالي دائم النضرة، وافر الطهر والنقاء والجمال والكمال. وميل إلى الحزن والكآبة يصحبه نزوع إلى اللهو واللعب والمرح. وابتعاد عن الجماعة، ولجوء إلى الطبيعة طلبا للوحدة والتأمل والانسياق وراء الأحلام والخيال والانكفاء إلى الذات. ونفور من الإخضاع القسري يبعث على التمرد المكظوم والحرية المكبوتة. وشغف بالأدب والموسيقى ومحاولات أولى في النظم والتأليف”.
وفي العام 1908 هاجر الياس زيادة برفقة عائلته إلى مصر بحثا عن فرصة عمل في الصحافة وكانت مي في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من عمرها. شابة مليئة بالحيوية والحماس… تعشق الكتابة والصحافة، تجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة، ثقافتها رفيعة، قرأت لأشهر الكتاب العالميين كما قرأت لابن الفارض والمعري والمتنبي.
وكان والدها في ذلك الوقت قد تعرّف على إدريس راغب باشا صاحب جريدة “المحروسة” فعمل معه. وبعد فترة منح الباشا جريدة “المحروسة” لالياس زيادة تقديرا لهذه الصداقة الغالية.
وفجأة تبدّل حال العائلة! وتوطدّت صلات الياس زيادة وزوجته وابنته بالوسط الثقافي في القاهرة. وبدأت مي الكتابة في جريدة “المحروسة” واختارت عنوان “يوميات فتاة” لباب ثابت كانت تحرره في الجريدة. وفي هذا الباب كانت مي زيادة تختار الموضوعات الحية التي تثير جدل الناس وتناقشها بجرأة، فارتبط بها القراء كونها كانت تمثّل فكرا جديدا في مجتمع مغلق خاصة بالنسبة لنساء عصرها.
وكتبت مي ديوان شعر باللغة الفرنسية بعنوان “أزاهير حلم” fleurs de reve. وكان هذا الديوان أول إنتاج أدبي لها أصدرته باسم مستعار هو “ايزيس كوبيا” وكان ذلك عام 1911 أي بعد ثلاث سنوات من إقامتها بمصر.
عن كتاب “أزاهير حلم” تورد مي في مقالة نشرتها في مجلة المقتطف: “في مشاهد لبنان الجميلة، حيث الجنائن المزدانة بمحاسن الطبيعة الضاحكة، والجبال المشرفة بجلالها على البحر المنبسط، عند هاتيك الآكام الوادعة كنت أسرّح الطرف بين عشية وضحاها، وأنا طفلة صغيرة بمدرسة عينطورة، فكانت توحي إلى نفسي معاني الجمال، فتفيض بها شعرا أسطّره في أوقات الفراغ وأثناء الدروس التي كنت أشغل عنها بنظم الشعر وتدوينه، حتى اجتمع لي منه مجموعة باللغة الفرنسية، سميتها أزاهير حلم “.
وبدأت أنظار رجال الأدب والفكر في ذلك الوقت تتجه إلى هذه الكاتبة التي بدأت موهبتها بالظهور. تحمّس لها أحمد لطفي السيد ويعقوب صروف صاحب مجلتي المقتطف والمقطم، وشجعاها على التزود في دراسة اللغة العربية والقرآن الكريم.
فقرأت بدأب، وعكفت على دراسة الفلسفة الإسلامية واللغة العربية. وأثناء هذه الفترة كتبت مي زيادة في العديد من المجلات المعروفة إلى جانب جريدة “المحروسة” فكتبت في مجلة “المقتطف”، “السياسة الأسبوعية”،”الهلال”،”المرأة الجديدة” وغيرها…
وكان أول الدروس الصحافية التي تعلمتها الأديبة مي أثناء إقامتها في القاهرة هي الجرأة. وجسّدت هذه الجرأة في إنشاء باب جميل وشجاع أسمته “خلية النحل” يسأل القراء فيه بعض الأسئلة في كل المجالات ويجيب قراء آخرون عنهم ولا تتدخّل المحررة ولا الجريدة بما ينشر.
(في الجزء الثاني: بين مي زيادة وجبران خليل جبران).