مي زيادة الدرة اليتيمة (4) المبدعة التي كانت تلعن وطنها صباح مساء…فهل يكفِّر لبنان عن إساءته لها؟

الدنيا نيوز – دانيا يوسف

 

تحكي مي ما حدث لها لأمين الريحاني أحد أصدقائها المقربين الذين وقفوا معها في هذه المحنة الكبرى في حياتها فتقول: “كان ابن عمي يحيك لي الدسائس وينصب لي الفخ وهو يظهر بمظهر الصديق الوفي والأخ البار. يراسلني من حين الى حين فأرد على رسائله بسرور… الى أن جاء الى مصر وطلب مني العودة الى بيروت.
ومنذ الأسبوع الأول في بيروت ذكّرت ابن عمي بوعده وقلت اني ارغب في الرجوع الى بيتي فطيّب خاطري وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني وأنا أطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه في أمري فأرسلني الى العصفورية…”
وجاء الفرج بعد عامين من أقسى العذاب على يد الصحافة والصحفيين من أبناء مهنتها… وشنت جريدة “المكشوف” حملة كبيرة حول هذا الموضوع فكتبت عام 1938 عن هذه المؤامرة ونشرت في الصفحة الأولى مقالة نقتطف منها:”وأخيرا استطاعت جريدة المكشوف أن تلفت أنظار الأدباء ورجال القضاء إلى المؤامرة التي وقعت الأديبة مي زيادة في شباكها، بفضل حملة قامت بها في هذا السبيل دامت أربعة أشهر… وقد لاقت الصحيفة من أجل الكشف عن هذه الدسيسة ما تلاقيه كل صحيفة حرة من تهديد ووعيد مما أثار الصحف اليومية الكبرى فراحت تتحدث عن مأساة مي. وهذا ما كان له أثره الطيب في إنقاذ مي من محنتها ولو انه جاء متأخرا”…
ويجيء أهم موقف في حياة مي بعد هذه التجربة القاسية… تقف في الجامعة الأميركية لإلقاء محاضرة حول “رسالة الأديب إلى الحياة العربية” أمام جمهور غفير من قرائها الذين جاؤوا بدافع الفضول، يريدون معرفة الحقيقة بأنفسهم بعد كل ما قيل وكتب عن مأساة مي. ومما قالته على مرأى ومسمع من الجماهير التي ملأت القاعة: ” تلك هي مكافأة لبنان لابنته مي: إهمال مفجع، وتغاض مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر وألقتني مدة سبعة أشهر في العصفورية. سبعة أشهر قضيتها على هذه الحال دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال… ولهذا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم، وبكل أسف وخجل أيضا أني كنت أردد، وأنا على تلك الحال، في كل يوم وفي كل ساعة: لعنة الله على لبنان.
نعم كنت ألعن وطني، وعندما يلعن المرء من يحب يكون الألم واليأس قد برحا به، ولكن هل يكفّر لبنان عن إساءته إلى مي؟ وهل يعيد إلى ضلوعها أقدس ما كانت تنطوي عليه وهو حبها للبنان؟”
وقررت مي زيادة العودة إلى مصر حيث موطن ذكرياتها ورصيد أيامها الحقيقي… المكان الذي شهد تفجر مواهبها واحتفى بريادتها ونبوغها… والوطن الذي سجّل لها شهادة التفرد في الأدب والثقافة والخطابة… عادت مي عام 1939 إلى مصر بعد ثلاثة سنوات من العذاب قضتها في لبنان… آثرت العزلة بعد عودتها وأغلقت الحياة تماما على نفسها وقلة قليلة جدا من الأصدقاء…
وبدأ الانسحاب التدريجي من الحياة… بفقدان الرغبة بكل شيء الطعام… الشراب… الحياة الاجتماعية… وهزل الجسد وبدأت أجهزته تصاب بالانهيار إلى أن خمدت ودخلت مي في غيبوبة فتوفيت في التاسع عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1941…
تركت مي زيادة رصيدا أدبيا يعد ثروة حقيقية وبينها أربعة عشر كتابا هي : باحثة البادية- عائشة التيمورية – وردة اليازجي (وهذه الكتب تندرج في فنّ السيرة)- بين المد والجزر- سوانح فتاة- الصحائف- كلمات وإشارات- ظلمات وأشعة- ابتسامات ودموع- أزاهير حلم- المساواة- غاية الحياة- الحب في العذاب ورجوع الموجة… كذلك تركت عددا كبيرا من المقالات في مختلف الجرائد والمجلات التي كانت تصدر في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي… وتنوعت الفنون والآداب التي عالجتها دون أن تكتف بفن أدبي واحد مما جعلها محور تحليلات النقاد…
وبهذا انتهت قصة حياة إنسانة غنية في كل شيء… في طفولتها… في شبابها المتوهج بالنجاح والشهرة… في انسحاب الحياة بكل جمالها وبريقها من تحت قدميها فجأة… ثم في نهايتها المأساوية المحزنة…
وهي قصة لسيرة حياة تستحق أن تروى وأن تقرأها الأجيال…