مصيدة الفئران لأجاثا كريستي

خاص

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*
ارتبطت حكاية مسرحية اليوم وبالصدفة بحدث آخر. الحدث كان احتفال الملكة البريطانية ماري بعيد ميلادها الثمانين عام ١٩٥٢. وكان قد طُلب من الملكة حينها اختيار إحدى روائع شكسبير لتقديمها في حفل الافتتاح فما كان بالملكة إلا أن تطلب عملاً لأجاثا كريستي بدلاً من شكسبير. وخلال فترة وجيزة كتبت أجاثا عملاً إذاعياً لمدة عشرين دقيقة حمل عنوان “الفئران العميان الثلاث” تمّ بثه ليلة الاحتفال ، ثم عادت الكاتبة ثانية بعد أشهر لتكتب العمل ثانية خصيصاً إلى المسرح وبعنوان جديد هو “مصيدة الفئران”. وحققت هذه المسرحية رقماً قياسياً في تاريخ المسرح البريطاني حيث بلغت سنوات عرضها ثلاثة وستون عاماً دون توّقف.
ولدت الروائية أجاثا كريستى عام 1890 وتوفيت عام 1976. أحرزت عام ١٩٧١ لقب “سيدة الإمبراطورية البريطانية” الذي تزامن حينها مع صدور روايتها الثمانين وبلوغها سن الثمانين في ذات الوقت. أما لقب “سيدة الجريمة” والذي منحه إياه القراء والنقاد، فهو لقب مجازي ارتبط وريادتها في ميدان أدب الجريمة أو ما عرف بالأدب البوليسي لكنها كتبت أيضا روايات رومانسية وعددا من المسرحيات المقتبسة من رواياتها أشهرها “مصيدة الفئران”.
تدور أحداث المسرحية في فندق متوسط يديره الزوجان الشابان مولي وجيل رالستون، بعدما انجزا اعداده ليستقبل الزبائن. وعند بداية المسرحية يكون صاحبا الفندق وأربعة من النزلاء شبه محبوسين في داخله جراء العاصفة الثلجية الضاربة. وبعد أن ينضم الى الجمع مسافر اضافي، يصل الى المكان متزلجاً الشرطي السرجنت ترانور، ليخبر الحاضرين باحتمال أن ترتكب جريمة في المكان بعد أن عثر على جثة سيدة تدعى مس مورين ليون، وبات يخامره الاعتقاد بأن القاتل اما انه موجود هنا، وإما انه في طريقه الى الفندق. ويعلل السرجنت ترانور لصاحبة الفندق سبب قدومه بأن المحققين عثروا على اسم الفندق وعنوانه مدّونا في دفتر ملاحظات القتيلة، كما أنهم وجدوا على جثتها ورقة كتب عليها:”هذا هو الفأر الأول”. في البداية يبقى الجميع بين مصدق ومكذب. ولكن في اللحظة ذاتها، تقتل في المكان واحدة من النزلاء وهي المدعوة مسز بويل. وهنا يحل اليقين محل الشك: ان القاتل موجود هنا بالفعل ولا شك أنه الآن يحضر لضربته المقبلة. فمن هو القاتل؟ هنا تأخذ الأحاديث الملتوية والمخاوف والشكوك المتبادلة والدعابات السوداء طريقها إلى قلب الثيمة لتشق طرقاً ومنعطفات جديدة لمسارات الحدث. فالجميع الآن محاصر في هذا الفندق في نطاق هذه المصيدة وليس لديهم أي وسيلة للاتصال بالعالم الخارجي والقاتل بينهم وكلهم مثار شك. في البداية يحوم القسط الأكبر من الشك حول الشاب كريستوفر، الذي يشتبه في أن مواصفاته وربما تصرفاته أيضاً تتلاءم تماماً مع مواصفات القاتل المفترض كما ينقلها التحري تروتر. ولكن إثر ذلك، ومن دون أن يبتعد الشك عن هذا الشاب يروح مطاولاً كل واحد من الحاضرين بل يصل الى رقبة صاحبي النزل أنفسهما. وفي المشهد الأخير، يجمع التحري تروتر الحاضرين أو من تبقى منهم بغية إماطة اللثام عمن يتبين له أنه القاتل الحقيقي. وكان ذلك بعد أن يكون قد نصب فخاً، سيكون القاتل هو أول من يقع فيه. أما المفاجأة فتكمن في أن ذلك الفخ يكشف لنا أن التحري تروتر ليس تحرياً على الاطلاق بل هو القاتل نفسه.
في هذه المسرحية تصل اغاثا كريستي الى أعلى درجات الابداع الكتابي في عرضها للكيفية والأسباب الكامنة وراء الجريمة، بصرف النظر عما اذا كان يمكن أو لا يمكن للمتلقين أن يخمنوا وهم ما زالوا في وسط العمل، أن هذا الذي أتى لينبههم من القاتل ليس في حقيقة أمره سوى القاتل نفسه. ويكون المتلقي قد شارك، مفكراً ومحللاً، طوال الوقت ومنذ ظهور أول الشخصيات في العمل في السعي لمعرفة الحقيقة. وهذا ما يسعى له الأدب البوليسي التي تنتمي اليه هذه المسرحية وهو ايقاظ وعي القارئ أو المتلقي بشكل عام وجعل تحريك فكره جزءاً أساسياً من لعبة التلقي. وهذا ما أعطى الأدب البوليسي قدرته الفائقة على أن يكون أدباً عقلانياً، ونجحت اغاثا كريستي بأسلوبها في اجتذاب ملايين القراء والمتفرجين الذين كان أكثر ما يحلو لهم في التعامل مع أدب كريستي، انما هو، ذلك القسط في التحدي العقلاني والمعرفي، الذي يبعثه هذا الأدب. إن ثيمات أجاثا كريستي الميلودرامية كانت ولا زالت مصدراً خصباً للتحليل النفسي للطبيعة البشرية بحبكاتها المحكمة وقدرتها الفذة على تضليل المتلقي والتلاعب بعواطفه. كانت كريستي تسعى لدعوتنا إلى التفكير والكشف عن الدوافع التي تقود النفس البشرية إلى ارتكاب الأفعال الشريرة لتعريتها وإظهارها إلى السطح.

—————————

رئيسة القسم الثقافي في “اخبار الدنيا”.