ماذا عن دور التجار في تجويع اللبنانيين؟

الدنيا نيوز” – عباس صالح*

إلى أين ؟ وماذا بعد؟ هل دخل لبنان في الفوضى الفعلية، وأقحم في الدوامة الجهنمية المفتوحة على المجهول؟ صيغ متعددة لسؤال واحد تسمعه على كل لسان، وتقرأه في وجوه كل العابرين.

قديماً قيلإشتدي أزمة تنفرجيأما اليوم فيبدو ان المقاربات اختلفت جذرياً، وباتت الأزمات المتراكمة تتشابك وتتعقد أكثرفأكثر مع كل يوم جديد من عمر هذا الوطنفاللبنانيون باتوا في قعر هاوية الجوع، والكثير الكثير منهم لا يستطيعون تأمين الخبز الحاف لعيالهم، والطبقات التي كانت تصنَّف ميسورة او متوسطة، باتت اليوم في دائرة الفقر المدقع، في ظل التضخم الذي نال من قيمة العملة المحلية، وجعلها كأوراقكدشلا لزوم لها بعدما فقدت قوتها الشرائية.

الاسباب التي أدت إلى هذهالكربجةفي المشهد السياسي والاجتماعي العام عديدة، وهي أكثر من أن تحصى، وإنتمحورت بمجملها حول مرض الطائفية الفتاك، وما يفرزه من آليات تحاصصية وتقاسمية على مستوى الحكم بين النخبالسياسية التي تحولت بفعل تمرسها مع الزمن إلى حيتان تبتلع كل ما تقع عليه، ولا تشبع من قليل ولا من كثير.

وإذا كان الحديث عن الحيتان السياسية وارتكاباتها وموبقاتها وجرائمها أطول من أن يُحصى حتى في كتب التاريخ ومجلداته، فإن للأزمة الاقتصادية والاجتماعية أبعاداً وهوامش أخرى، وحقائق ليست غائبة عن أحد، لكنها محجوبة عنالاضواء بشكل كبير، نتيجة طغيان جرائم الفساد السياسي والاداري وبلوغها حدودا فاقت كل منطق وخيال.

فالقطاع التجاري عموماً، وبالأخص تجار المواد الغذائية، هو أخطر من ساهم في الإنفجار اللبناني، بل هو من فجَّر صواعق الأزمة فعلياً، وهو من عمَّقَها، وراح ينكأ الجراح، وتعاطى بلا إنسانية ولا ضمير ولا وطنية ولا أخلاق مع واحدة من النكبات التي ما عصفت بوطن إلا وجعلته هشيماً.

وأذا ما أخذنا بعض الأمثلة الحية على جرائم بعض التجار في مفاقمة الأزمة وتعميقها سيتبين لنا التالي:

1 – بعيد أزمة 17 تشرين عام 2019 وقبل ان يرتفع عملياً سعر الدولار الاميركي في مقابل الليرة اللبنانية راحت اسعار السلع الغذائية ترتفع بشكل جنوني، عشوائي ومريب، وما ان بدأ الدولار بالارتفاع حتى جنت اسعار المواد الغذائية وسواها بشكل غيرمتناسب بتاتاً مع الارتفاع الذي كان يطرأ على الدولار الاميركي، وبشكل فاق أسعارها القديمة بعشرات الاضعاف وقبل ان يبلغ الارتفاع في الدولار ذروته الى عشرة اضعاف تحديداً مع وصوله الى عتبة ال 15 الف ليرة كانت أسعار السلع الغذائة بمعظمها قفزت الى ما فوق ال20 ضعفاً، ولدى نزول الدولار أيضا كانت ترتفع اسعار السلع الغذائية بدل نزولها.. وهكذا استمرت دوامة رفع الاسعار في المواد الغذائية والاستهلاكية عموماً من دون أي تبرير منطقي او عقلاني بالشكل الذي يتناسب مع أزمة الدولار.

2 – ولا تاجر من تجار المواد الغذائية أقام يوماً وزناً لعقول اللبنانيين الذين يعرفون جيداً ان المواد الغذائية الاساسية هي مواد مدعومة فعلياً من الدولة اللبنانية، أي انها ما تزال بمعظمها كمواد أساسية تصلهم الى المتاجر على دولار ال 1514 ليرة لبنانية ، وخاصة في السنة الاولى من الازمة، فيما المواد المتبقية تشترى على اساس دولار المنصة وهو سعر 3850 ليرة، وكان التجار يشترون الدولارات على سعر ال1514 ليرة وسعر ال 3850 ليرة ويدَّخرونها للمتاجرة بها في السوق السوداء، ثم يبيعون بضاعتهم بأسعار كما لو ان سعر الدولار فاق ال50 الف ليرة.

وبحسبة بسيطة على سبيل المثال لا الحصر لنأخذ سلعة السكر التي كان يباع سعر الكيلوغرام منها قبل الازمة ب750 ليرة، وفقاً لسعر الدولار القديم الذي كان يومها ب 1514 ليرة . وهذه سلعة مدعومة بالكامل اي يجب ان يبقى منطقياً حتى اليوم سعر الكيلوغرام من السكر ب750 ليرة لأن شيئاً لم يتغير على التاجر الذي ما زال يستوردها بدولار ثمنه عليه 1514 ليرة، وحتى أولئك الذين يتذرعون بأنهم لا يحصلون الا على دولار المنصة اي بسعر 3850 للاستيراد، حتى هؤلاء يفترض ان يبيعوا كيلو السكر بضعفي سعره اي ب1500 او 1750 ليرة بأحسن الاحوال كي يأتي متناسقاً مع سعر الدولار الذي يزود به التاجر، في حين ان الواقع ان الكيلو غرام من السكر ارتفع من 750 ليرة إلى 10 الاف ليرة اي بما يعادل 15 ضعفاً او 1500 بالمئة! . وعلى هذاالمنوال تباع كل السلع وبعضها ارتفع بنسب تفوق ال 3000 و4000 بالمئة من دون أي تبرير منطقي، ومن دون اي رقابة اومحاسبة فعلية ومن دون ان يتوقف الدعم حتى اليوم، وهو ما طرح العديد من علامات الاستفهام حول الجهة الحقيقية المستفيدة من هذه الفوضى وهذا النهب المنظم لأموال الدولة ودولارات المصرف المركزي بأسعار متدنية ومن دون الالتزام ببيع المواطن السلع الا بناء على دولار يفوق سعره أسعار السوق السوداء في غالب الاحيان.

3- اللافت أيضا في هذا السياق ان أسعار السلع المدعومة دائما ما ترتفع بشكل متواصل منذ اندلاع الأزمة ولم تنخفض يوماً حتى مع الانخفاض الذي شهدته السوق السوداء بسعر الدولار  خلال فترات الوئام السياسي بين اركان الحكم. وما جرى في قطاع السلع الغذائية عموماً انسحب أيضاً على قطاعات اللحوم والدواجن والادوية الزراعية وكل القطاعات الاخرى بحيث تحول كبار التجار الى صرافين يشترون دولارات المصرف المركزي المدعومة من مال الناس، ويستوردون بضاعتهم ليبيعونها على اساس دولار السوق السوداء واعلى منهولو تحلى التجار تحديداً بالاخلاق الانسانية في خلال هذه الازمة، لما وصلنا أصلاً الى هنا، ولكانت كل الاسعار ما تزال على حالها باعتبار ان دولار التاجر ما يزال حتى اللحظة 1514 ليرة ، ولكانت في احسن الاحوال تضاعفت الاسعار مرتين تبعاً لدولار المنصة، ولما وصل اللبنانيون لا الى مجاعة ولا الى هذا التعقيد في الازمة الاقتصادية التي استنزفت مالية الدولة وافرغت خزائنها.   

4- المفارقة النافرة في سياق هذا الشق من الأزمة هي ان السلع المستوردة بالدولار فعلياً معروفة بمجملها، واذا كان التبريرالببغائي المعتمد لدى التجار بأن رفع أسعارها مرتبط بارتفاع سعر الدولار من دون ان يجدوا من يواجههم بأن سعر دولارهم لايزال على حاله منذ ما قبل الازمة، فإن ما يحصل على مستوى رفع أسعار السلع المنتجة محلياً وبشكل يفوق الخيال لهو أمر يبعث فعلاً على الارتياب والذهول والسؤال عن حقيقة ما يجري فعلاً،  وعن الغرف السوداء التي تدير الأزمة من وراء حُجُب.

فإذا كانت السلع المستوردة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالدولار ، فما هو سبب ارتفاع اسعار السلع المنتجة محلياً الى ما يفوق ال2000 بالمئة واكثر لا سيما منها الترابة التي تنتج محليا وتصنع داخل البلد وتباع في داخله، وما هو سبب ارتفاع مياه الشرب التي تنبع من لبنان وتعبأ فيه وبقوارير مصنعة محليا ايضاً، وكذلك اسعار الرمل والبحص المنتج من جرود لبنان، والقياس على الصناعات المحلية لا يتوقف عند المنتجات الزراعية على كافة انواعها والاف المنتجات الاخرى وصولا الى قطاع الدواجن والحليب الطازج الذي ينتج في لبنان من ألفه إلى يائه. وحتى موضوع الاعلاف فإنها بمعظمها وغالبيتها تنتج وتطحن في لبنان، ومن يحتاج الى استيراد ادوية وفيتامينات واعلاف اجنبية وما الى ذلك، فإنه يحصل على الدولار المدعوم لشرائها، فما هو المبرر  إذن لرفع صفد البيض مثلاً الى ما يقاربال45 الف ليرة بعدما كان قبل الازمة لا يتجاوز الثلاثة الاف ليرة اي بما يوازي ال15 ضعفاً، وهو طعام الفقراء ، ولحوم الدواجن أيضا ما سبب ارتفاعها بنسب مماثلة؟ وهلم جرا على كل القطاعات الأخرى التي لا حصر لها.

على أي حال، تلك عينة صغيرة من أسئلة كثيرة تفرض نفسها على كل متابع وتستولد أسئلة أخرى : ماذا يجري في لبنان؟ ومن هو الجاني الفعلي الذي يجوِّع اللبنانيين؟ وأين أجهزة الدولة ورقابتها؟ ومتى تقوم الثورة الحقيقية ؟ وما هي وجهتها الطبيعية؟وسلسلة طويلة من الأسئلة لا تنتهي.

—————-

رئيس تحرير “الدنيا نيوز”.