إنهيار وطن (2) … لبنان والإندثار السياسي


بقلم : د. غسان الخالد*

(المقال الثاني ضمن سسلة مقالات “انهيار لبنان” يكتبها الدكتور غسان الخالد وتنشر حصراً في جريدة “الدنيا نيوز” الالكترونية)

من البديهي القول إن نشأة الكيان اللبناني كدولة وفق المعنى الغربي لمفهوم الدولة، لم يغير في التركيبة السياسية، لا بل أكد عليها واستطاع أن يجذرها بشكل بات من الصعب تجاوزه وتخطيه، وبالتالي تغييره وفق النمط الحديث للدولة القومية الذي عرفه الغرب، وحاول إسقاطه على مجتمعاتنا، او حاولنا إسقاطه، من غير تبيئة في ثقافتنا الموروثة، وهو ما جعل الدولة ككيان سياسي، دولة هجينة.
يمكن القول إن هذا الوضع قد استمر خلال الحرب الأهلية وما بعد الطائف،ولا زال مستمرا حتى الآن، حيث نلحظ وبسهولة هذه الظاهرة السيا/ عائلية، مع ظهور نمط آخر افرزته الحرب الأهلية، استطاع هذا النمط القادمة قيادته من الريف الذي كان مبعدا عن السلطة والمشاركة فيها بفعل البيوتات السياسية من تسلم قيادة تيارات سياسية تحت هذا الشعار أو ذاك، وخير مثال على ذلك حزب القوات اللبنانية وحركة امل، رغم اختلاف البنية، ورغم اختلاف العوامل المساعدة على نشأة هذه التيارات السياسية، كما رغم الاختلاف البعيد في الرؤية، ونوعية الخطاب المستخدم والذي يفيد أو يهدف إلى الاستمرارية السياسية. لقد كان لغياب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، حركة دافعة باتجاه الاستمرارية ساعدها على ذلك الكاريزما التي يتمتع بها رئيسها دولة الرئيس نبيه بري. وكما تمت الاستفادة من توظيف غياب الإمام في السياسة، كذلك استطاعت القوات من خلال خطابها التعبوي خلال الحرب والشعارات التي طرحتها ثم لاحقا وبعد الطائف وما تعرض له زعيمها، من استمراريتها. مع ملاحظة أن القوات اللبنانية قد أيدت اتفاق الطائف بداية من غير أن تتخلى عن مشروعها السياسي الأساس أو الرئيس.
اما المفارقة فقد تجلت في استمرار هذه البيوتات السياسية المتوزعة طائفيا، وخصوصا عند الموارنة والموحدين الدروز، مع المحافظة على استمرار ما عرف عبر التاريخ بالصراع اليزبكي الجنبلاطي. أما عند السنة فقد ضعفت البيوتات السياسية كثيرا جدا، إن لم نقل اندثرت أو في طريقها للاندثار مع الحريرية السياسية.
الحقبة الحريرية.
يعتبر وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى السلطة بتوافق إقليمي ودولي نقطة تحول في الممارسة السياسية في لبنان. استطاع الحريري أن يتحالف مع أمراء الحرب، ساعده على ذلك عوامل عديدة، لكن الحقبة الحريرية تميزت بتجذير الطائفية على مستوى المؤسسات باختلاف أنواعها السياسية والإدارية وحتى الأمنية. لقد كربل الحريري الوزارات من خلال إنشاء مرافق مستقلة، تداخلت صلاحياتها مع الوزارات فعرقلتها. أضف إلى ذلك إنشاء الصناديق الطائفية، والتي كرست الفساد في الإدارة في مختلف حقولها. وهذا ما سوف ابحثه في مقال منفصل. لكن كيف مهد الحريري ولو بطريقة غير مباشرة للانهيار السياسي؟.
بداية لا بد من القول إن الحريري ألغى كل البيوتات السياسية في الطائفة السنية، وبصرف النظر عن رأيي بهذه المسألة، الا ان مفارقة أخرى أكدت على بداية هذا الانهيار من خلال تصرفه كرئيس شركة وليس كرئيس حكومة لدولة تمنى الكثير أن نصل إليها. وأمر آخر وهو مفارقة أكبر وأخطر تجلى في استقطابه لرموز ما يسمى بالحركة الوطنية، وخصوصا أولئك الذين قد لا يظن ابدا انهم قد يتحالفوا مع البرجوازية عنيت بهم بعض الشيوعيين، ومنظمة العمل الشيوعي وبعض القوميين العرب أو القومجيين العرب. والملاحظ أن بعضهم لا زال حتى اللحظة وهم ما يوصفون بصقور التيار. يمكن القول إن هؤلاء قد أثروا في العمل السياسي لتيار الحريري خصوصا بعد عدوان تموز، وخصوصا أكثر بعد الأحداث في سوريا حيث ارتبط خطابهم باجندات غير محلية مطلقا، وهو ما اكتشفته من خلال بعض الأحاديث الخاصة مع بعضهم.لقد شكل اغتيال الرئيس الحريري محطة مختلفة كليا عن سابقتها، وأدى بشكل مباشر إلى قيام جبهتين في لبنان عرفا ب ٨ آذار و١٤ آذار. فما هي تداعيات ذلك على الانهيار السياسي في لبنان؟.
أود اولا توضيح أن هذين التاريخين قد ارتبطا بشكل مباشر بالوجود السوري في لبنان. كانت سوريا قد اتخذت قرارها بالانسحاب من لبنان بعيد اغتيال الرئيس الحريري والضغوطات الكبرى التي مورست عليها. في الوقائع خرجت تظاهرة شكر لسوريا في ٨ آذار، وفي ١٤ آذار وبمناسبة أربعين الاغتيال خرجت تظاهرة أخرى ضمت كل القوى السياسية المتناقضة والتي كانت على خلاف مع الرئيس الشهيد. لكن كان من أبرز الخطباء السيدة بهية شقيقة الرئيس الشهيد، وأبرز ما قالته هو لن نقول وداعا سوريا بل إلى اللقاء سوريا. إذن فإن ٨ و١٤ كلاهما شكر سوريا ولاحقا كلاهما تصارعا على الوجود السوري في لبنان، لكن كل من منظور الخاص. ففريق ٨ آذار أراد التعامل مع سوريا الدولة والنظام القائم، وفريق ١٤ كان يود الاستمرار مع شخصية معينة من النظام والتي بدأت ملامح انقلابها عليه، عنيت بذلك الشخصية التي استلمت ملف لبنان منذ الحرب الأهلية وطوال الوجود السوري في لبنان، الا وهو عبد الحليم خدام.
هكذا بدأ يتجذر الخلاف بين الفريقين، فكريا من خلال اتهام سوريا بالاغتيال، ومن ثم عمليا من خلال الابتعاد عن كل الاتفاقات التي عقدها الحريري الأب مع الدولة السورية، ومنها وبالمناسبة الكثير من المنافع للبنان كدولة.
ساعد عدوان تموز على ظهور نوايا أركان هذا الفريق ، وهو ما زاد في الانقسام العمودي في الممارسة السياسية لأهل السلطة في لبنان. وبعيد الأحداث السورية بقليل اضطلع بعض أركان هذا الفريق بالعمل لإسقاط النظام السوري بشكل أو بآخر وتحت هذه الذريعة أو تلك. وبالمناسبة هنا أود التأكيد على أن هذا الطرف السياسي قد دخل في الحرب السورية مشاركا بشكل أو بآخر قبل دخول حزب الله الحرب في سوريا، وقلعة الحصن شاهدة على هذا التدخل.
من السهل ملاحظة أن الخلاف في المواقف السياسية للفريقين قد تحذر واستفحل وهو ما سيؤدي حكما لاحقا إلى انهيار لبنان سياسيا، مع العلم ان مصطلح ٨ و١٤ قد غاب عن الذاكرة الان وحل محله الصراع العربي الإيراني بدل الصراع العربي الإسرائيلي. فبتنا أمام محورين هما ذاتهما مع فارق الأهداف. وأصبح هذين المحورين كالخطين المتوازيين لا يلتقيان ولن يلتقيا، وان تلاقيا فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

لكن اعتقد انه من المفيد القول إن الكيان اللبناني الذي نشأ على فكرة الدولة/ العائلة، لم يعد بالإمكان التعاطي معه على هذه القاعدة، خصوصا وأن حجم المتغيرات التي لم يتم مراعاتها حتى الآن هو كبير جدا، وهو ما يشكل عقبات أمام استمرار هذا النموذج، وخصوصا أيضاً وأيضاً أن القوى التي من المفترض أن تكون قوى تغييرية، واقصد هنا الأحزاب والجماعات الضاغطة، كالنقابات العمالية والمهنية، قد أصبحت جزءاً من السلطة،لا بل هي تعبير صارخ عن السلطة، وقد افرغت من مضمونها النقابي، كما افرغت من مضمونها كجماعة ضاغطة وفقدت دورها على هذا الصعيد. من هنا أجد أن معادلة خير خلف لخير سلف لم تعد صالحة لبناء الدولة، وبالتالي فإن ذلك مؤشر على الانهيار السياسي القادمون عليه أو القادم إلينا بإرادتنا أو رغما عن إرادتنا.
حاولت أن أشير هنا إلى ملامح انهيار لبنان السياسية الداخلية. وطبعا هناك ملامح أخرى إقليمية ودولية سوف تكون موضوع منفصل.