لبنان ما بعد الانهيار .. مشهدية القوى السياسية بعد تفتت الوطن

 

بقلم : د . غسان الخالد*

انطلق في مقالي هذا من فرضية أن الشروط الموضوعية لانهيار لبنان، تتراكم، وان التدويل وبصرف النظر عن كلفته الباهظة الثمن، هو قيد التحقيق، او التحقق. وبالتالي فإننا سنشهد تموضعا جديد للقوى السياسية في لبنان، كما سنشهد تراجعا لقوى أخرى لصالح قوي من اللون ذاته طائفيا. كما سنشهد انحسارا لبعض البيوتات السياسية التقليدية، وضياعا مربكا ربما إلى حد بعيد، عند أهل السنة، وفق توزعهم مناطقيا.
قد يتفاجأ البعض بأن الانهيار أمر بات محسوما، وقد يتفاجأ بعض آخر من هذه الرؤية الاستشرافية السياسية للبنان، الذي فقد كما اعتقد وظيفة إعلانه، كما فقد وظيفة دوره إقليميا، كنافذة على البحر، وصلة وصل بين الغرب والشرق. وعليه اقول ان ما تشهده الساحة اللبنانية من دعوات للتدويل، وانطلاقا من المصلحة الاورو – أميركية، فإني أرى أن الموضوع بات قيد التحقق. ويبقى السؤال مشروعا في ظل فرضية الانهيار المتوقع، عن القوى السياسية في هذا الكيان، وكيفية ما ستؤول إليه كما كيفية تموضعها الجديد.

وانطلق في التحليل أخذا بعين الاعتبار معيار الطائفة والمذهب، كما معيار البيوتات السياسية التي كادت أن تكون تقليدية كما عهدناها في القرن العشرين.
اولا:بالنسبة للأحزاب العقائدية، كالحزب السوري القومي وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي، فإنه بات واضحاً جداً أن هذه الأحزاب قد فقدت القسم الأكبر من دورها ووظيفتها في لبنان، لأسباب عديدة ومتعددة، وهي تعاني الآن من انقسامات سلطوية تكاد تكون مصيرية ووجودية. وبالتالي فإن وضعها في لبنان ما بعد الانهيار سيكون وضعا صعبا للغاية، وربما يصبح وجودها شكليا فقط لا غير.
يمكن أن نضيف هنا وضع بعض الأحزاب والتيارات السياسية، المنتشرة في بعض المناطق اللبنانية، والمنقسمة أيضا على نفسها وفقاً للمصالح الشخصية لقادتها، وهنا يكفي أن أشير إلى التيارات الناصرية كنموذج واضح لما هي عليه الآن، وما سوف تكون عليه لاحقا….
ثانيا:البيوتات السياسية التقليدية، تتوزع هذه البيوتات السياسية على مختلف الطوائف اللبنانية. منها ما انحسر واندثر بعيد وصول الرئيس الحريري إلى السلطة في تسعينات القرن الماضي، حيث كان هدفه الأول إنهاء دور هذه البيوتات، كما إنهاء دور الحركات الإسلامية على الساحة السنية. وهو ما تمكن من تحقيقه وبسهولة، أكان ذلك في بيروت أو في الشمال أو غير ذلك. وكذلك الأمر بالنسبة البيوتات السياسية التقليدية على الساحة الشيعية. وهكذا غاب آل اليافي والصلح، كما غاب آل حمادة والأسعد، وبالطبع هناك العديد من البيوتات الأخرى، ويمكن للقارئ تذكرها بلحظات قليلة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض البيوتات السياسية التقليدية على الساحة المسيحية، لاتزال موجودة، بفعل تبنيها لرؤية ما كالكتائب مثلا، او فرنجية شمالا، في الوقت الذي شهدنا فيه نهاية ما يسمى بالشمعونية، والكتلة الوطنية، اي بيت اده، ولعل استقالة كارلوس اده من منصب المسؤولية الذي لم يكن اهلا له، ربما بفعل طبيعة ونمط حياته كما بفعل عقليته.
جدير بالذكر أن هذه البيوتات محكومة السلطة فيها بثنائية صراع قبلية اي عم اخ او اخ اخ او عم ابن اخ…. وهذا ما لاحظناه في الارسلانية وفرنجية وكرامي.،وحتي الوطنيين الأحرار حيث تمثل الصراع بين تريسي ابنة داني وبين عمها دوري كما بين سليمان فرنجية وعمه روبير، وكما بين فيصل كرامي وأخيه، وعمه وابن عمه، وكما هو الصراع الان بين سعد الحريري وشقيقه بهاء.
اعتقد انه من النوافل القول إنه عادة ما تعيد البيوتات السياسية تموضعها عند اية تغييرات تطرأ، بغية الحفاظ على مصالحها أولاً، وبغية استمراريتها ثانياً.
ثالثا: انطلاقاً من المعطيات السابقة سوف يكون المشهد الجديد للقوى السياسية في لبنان ما بعد الانهيار وكما اتصوره كالتالي:
1 – ستكون هناك أربع قوي أساسية على الساحة المسيحية هي :التيار الوطني الحر والقوات ، وهما الأكثر انتشار على مساحة الكيان والكتائب محدودة الدور، رغم انتشارها، والمردة بزعامة سليمان فرنجية المتمركز والمتموضع شمالا بشكل عام وان وجد البعض من المؤيدين في مناطق أخرى غير شمالية. هذه القوى المختلفة وفق المواقف السياسية ستجد نفسها في فترة الانهيار، متفقة نوعا ما على المآل. إذ أنها تنتشر غالبا في كان يسمى سابقا وخلال الحرب الأهلية بالمنطقة الشرقية، مضاف إليها ما كان يسمى في التاريخ منطقة زغرتا الزاوية معقل فرنجية، وجبة بشري معقل القوات. تقتضي تداعيات الانهيار، وفي حالة وضع لبنان تحت الوصاية الدولية، أن تكون هذه المنطقة برمتها تحت الوصاية الفرنسية، لارتباط الموارنة تاريخيا بما أسموه الأم الحنون. أما بخصوص الدروز فقد تكون من حصة روسيا من خلال إعادة إحياء وجودها التاريخي بدءاً من مدرسة عبيه، وبحكم العلاقة التي يرتبط بها جنبلاط مع الروس. ويبقى التساؤل مشروعا حول التموضع الجديد لهم كما حول كيفية تعاطي وريث الوليد مع المستجدات رغم أنه وحتى الآن لم تظهر عليه شخصية كاريزماتكية كما والده. وهكذا يمكن أن يكون التنافس على أشده بين التيار الوطني الحر الذي بدأ يعاني من ترهلات بفعل العقوبات الأميركية على رئيسه، كما بفعل المواقف السياسية له، حيث نشهد بين الحين والآخر ما يسمى صقور التيار، والمواقف المتشددة التي يطلقونها. لكن اعتقد ان هذا الصراع سيبقى تحت السيطرة انطلاقا من توصيات المؤتمر الذي انعقد في سويسرا عام 2004 تحت شعار إيجاد وطن لمسيحيي الشرق أو ما أسموه ملاذا أمنا برعاية الاتحاد الأوروبي.
2 – على الساحة السياسية السنية، ستبقى الامور في حالة تخبط وضياع لكثرة التوجهات المختلفة عند نخب أهل السنة السياسية. وهنا يمكن القول إن غالبية السنة شمالا تتمنى أن يكون الشمال تحت الرعاية التركية، ومن هنا نشهد إعادة تموضع لبعض النخب السياسية الشمالية، كما نفهم أو نتفهم وظيفة المساعدات التركية للشمال وصولا لبعض المناطق في البقاع كمدينة الفاكهة، مغلفة بالعلم التركي وصورة أردوغان.

وبالمناسبة سوف يكون للجماعة الإسلامية باعتبارها واحدة المنشأ (مع حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم)، دور إيجابي ومتفاعل مع الوجود التركي، لكنها لن تصل إلى حد السيطرة والنفوذ الكاملين.
وفي سياق الكلام عن دور مرتقب ومباشر لتركيا في الشمال، فقد عقد أكثر من اجتماع بين بعض الفعاليات الاجتماعية والسياسية من عكار، في دولة ما معنية بشكل مباشر، وبحث الموضوع بتفصيل كبير. وبالمناسبة أيضا فإن الوجود التركي في الشمال له أبعاد سياسية إقليمية.
3 – يبقى الموضوع الأهم حول كيفية التعاطي مع الانهيار من الشيعة عموما، والثنائي السياسي خصوصا. ذلك أن الهدف الأساس من التدويل هو السلاح الذي يمتلكه حزب الله، والذي تعتبره أوروبا كما أمريكا مهددا لوجود الكيان الصهيوني.
من النافل القول إن الشخصية الكاريزمية لها دور كبير في التأثير بالاتباع. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن كاريزمية الرئيس بري، تكاد تكون متمتعة بصفات أكثر من غيرها. لكن التساؤل حول مصير حركة أمل الوجودي كحركة سياسية، ما بعد الرئيس بري تطرح وبشكل جدي، ذلك أنه لا توجد شخصية مماثلة له تستطيع أن تستمر بالقيام بالدور الذي يقوم به. أضف إلى ذلك أن الفرق بين أتباع الحركة ومؤيدي الحزب له دور أيضا في هذا المجال. فالانتماء للحركة وجداني في حين أن الانتماء للحزب عقائدي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، الصراع الخفي داخل الحركة كما داخل الحزب مناطقيا، وما سبق وقلته حول طريقة تعاطي العشائر مع السلطة أكانت محلية، او على مستوى الدولة، إضافة إلى غياب الشخصية الكاريزماتية لشخصية البديل فإنه من المتوقع أن تزداد الولاءات للحزب وسوف نشهد تراجعا كبيرا في دور الحركة كما في وجودها. اسوق هذا الكلام بعيدا عن العواطف، ففي السياسة لا تنجح العواطف والمشاعر.
لبنان ما بعد الانهيار سيشهد بلبلة سياسية في أكثر من منطقة، كما سيشهد تموضعا جديداً لبعض القوى السياسية، وربما بروز قوى أخرى لكنها محدودة الفاعلية. وبالطبع فإن مجمل الأمور محكومة، بمستوى التدخل الدولي، كما هي محددة بتوزيع الوصاية على الدول المعنية. وفي شتى الأحوال فإن وضع لبنان تحت الوصاية الدولية وقبل إعادة التموضع للقوى السياسية، سوف يكون أمام خطر الحرب، ولا اقصد هنا الحرب البينية، وعلى نتائجها وعندها، تتوقف كل التموضعات الجديدة،وتتضح أكثر فأكثر صورة المشهد.


*أستاذ وباحث في علم الاجتماع السياسي

طرابلس في 3 /4 /2021.