في سوق صيدا القديم تراث قديم ما زال يقاوم الحداثة باللحم الحي

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف


للأمكنة رائحة مميزة تعلق في ذاكرة زائريها… هذا العبير الفريد، بقدر ما يستفز الحواس، بقدر ما يترك داخل الروح فيضا من جمال وسجّلا حافلا بالصور والذكريات ومشاعر الحنين والفرح…
وأنا العاشقة للتجوال واكتشاف التراث، أخذتني مدن وشواهد كثيرة الى تفاصيلها العابقة بالحياة والحكايات… لكن مدينة صيدا وبحرها اللازوردي الرائع وكنوزها التراثية الموغلة في القدم، تركتني في حيرة من أمري من أين أبدأ وكيف أصف رحلتي اليها…
في الجانب الشرقي من البحر الابيض المتوسط، وعلى بعد خمسة وأربعين كيلومترا عن العاصمة بيروت تقع مدينة صيدا على الساحل اللبناني الجنوبي… ولهذه المدينة وجهان: صيدا القديمة الملاصقة للبحر وتشكّل الوجه التراثي فيما تتمدّد صيدا الحديثة شرقا على التلال المحيطة عاكسة التطوّر العمراني في المدينة على مر العصور…
هذا بحر صيدا يأنس من أصوات باعة السمك التي تعجّ بهم المراكب ويرنو بفخر الى قلعته الشامخة بحجارتها وأعمدتها وقناطرها التي ألّفت مع هذا الأزرق الجميل قصتها…
قلعة صيدا البحرية تغمز بطرفها القلعة البرية المقابلة لها… وبين القلعتين، يقع السوق العتيق الذي يختزن منشآت ومعالم أثرية وتراثية وتاريخية…
أول ما يستوقف الزائر عند دخول السوق عماراته القديمة المبنية بأحجار رملية توحي بمئات السنين وكأن التاريخ مسكون في أقبية حجرية، في دكاكين حرفية، في زقاق متعرّج ومتفرّع الى أكثر من طريق يؤدي كل منه الى حرفة تارة، والى خان الافرنج تارة أخرى…وبين هنا وهناك نفتح سلة الحكايات لنملأها بقصص وحكايات تنبض بالحياة والتراث…
في هذا السوق أشخاص لم يلتحفوا بوشاح التطوّر، بل حملوا حِرَف توارثوها أبا عن جد… تاريخ السوق خطّته أنامل هؤلاء الناس الذين أبوا أن يفكك الزمن او الحياة العصرية الإرث الحرفي الذي ما زال يقاوم كي لا يندثر وتأفل معه أصالة التراث… شوارع ضيقة ومسقوفة بالعقود التاريخية، تقطع بعضها فتحات يتغلغل عبرها النور وتربط أسواقها الشعبية على اختلافها…  
هنا سوق النجارين…
منذ أكثر من قرن ونصف قرن اتخذ هذا السوق تسميته الراهنة وتحوّل الى مكان تتمركز فيه مستودعات الخشب وتنتشر فيه محال النجارة بكثرة… في الماضي، اعتبر السوق عاصمة النجارة في المنطقة على الرغم من مساحته الصغيرة… واشتهر هذا السوق في الماضي بصناعة “العلب الخشبية” التي تقدّم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكانت تصدّر الى الخارج…
منذ سنوات، تراجع عدد محال النجارة في السوق وباتت معدودة بعدما أطاح استخدام الوسائل العصرية تلك المهنة الحرفية الخشبية…
تعاند الحرف القديمة التلاشي والاندثار… ومن يقصد هذا السوق سيرى في أكثر من ركن طاولات عريضة تحوي قباقيب خشبية وطبليات ومناخل وأجران خشبية بأحجام متنوعة… وبين هذه القطع الصغيرة، نجد حرفيون يصنعون كراسي خشبية معتمدين على آلات بدائية الى حد ما… هنا نشاهد الشاكوش، المنشار ، القلم والبيكار، خيطان القش وغيرها…
نتابع الجولة بين أروقة السوق الذي تحكي كل زاوية فيه حكاية حرفة عبرت من هنا، بعضها اندثر وبعضها يقاوم الاندثار… المنجّد… النحّاس…الخيّاط… المبيض وغيرها الكثير…
داخل السوق تغلب موسيقى الحرفيين المنبعثة من بين أناملهم على الصمت المدهش الذي يعتري قاصده لأول مرة… كل شيئ هنا يوحي بالألفة والمحبة… ربما هذا الشعور يرتبط بحميمية المكان حيث الصخب الهادئ البعيد عن زحمة السيارات وحيث تختلط أصوات الباعة بأحاديث الزوار وأسئلتهم الكثيرة…
الرحلة داخل السوق القديم لا تكتمل بدون العروج الى متحف الصابون الذي يضم في جعبته مئات بل آلاف التحف الصابونية…
متحف الصابون هذا هو باكورة العمل الصناعي لعائلة عودة التي تملك أحد أهم المصارف اللبنانية، وقد حرصت العائلة على إعادة تأهيله، إضافة إلى مساكن عدة باتت نموذجا من منازل المدينة القديمة.
الجزء الأقدم للمتحف حيث تقع الأحواض، يرقى إلى القرن السابع عشر على الأقل، ويمكن التعرف إلى المواد الأولية المستخدمة في التصبين وتقنيات التجفيف والتقطيع المتبعة لإنتاج الصابون الحرفي، فضلا عن استعراض طقوس الحمام. وتنتهي عملية التصنيع في قاعة العرض، حيث تتكدس مكعبات الصابون تلالا تتماوج تحت أضواء خافتة. لا شك أن أهمية متحف الصابون لا تقتصر على الصناعة الحرفية فحسب بل الى كونه موجودا في بناء تاريخي تراثي من الحجر الرملي ومبنى على طريقة «العقد» السائدة في المدينة القديمة وهذا ما يجعله مقصدا للزوار والسياح وعشاق الجمال…
المعالم الأثرية في السوق القديم عديدة ومتنوعة، غالبيتها لا تزال موجودة وتحديدا الدور الرحبة والواسعة التي تعود الى المرحلتين العربية والعثمانية ويسكنها عدد من عائلات المدينة العريقة… وتكثر الساحات التي تربط بين الأزقة المتنوعة وتتميز بطابعها العمراني التاريخي وتحاكي بجمالها القلب قبل العين ويستريح الناظر اليها…


نعود أدراجنا من مدينة صيدا وسوقها… هذه المدينة التي رست على شاطئها حضارات… نسجت تاريخها وضجّت عتباتها بأهم المواقع الأثرية والتراثية وبحضارات تعود إلى ما قبل خمسة آلاف وستة آلاف سنة. وما تزال شواهد الحضارات التي تتابعت على المدينة ماثلة للعيان من مواقع وقلاع وحصون ومعابد وغيرها، لتحكي فصولا من حياة شعوب مرت في حوض البحر الأبيض عبر الزمن.
انتهت الرحلة ولم ينضب صندوق الحكايات لأن ما روي اليوم عن سوق صيدا القديم وحرفها التراثية هو فصل من حكاية طويلة لسيدة البحار مع معالم أخرى يمكن زيارتها والاستماع الى تاريخها العريق…