فرنسا؛ اليسار الاسلامي والانفصالية ..!

بِقَلَم العميد مُنذِر الايوبي*

“اليسار الاسلامي” «IslamoــGauchisme» عبارة بدأ تداولها في اوساط النخب والشرائح الاجتماعية الفرنسية على تنوعها، سواءً المثقفة او تلك اليمينية المتطرفة، في قسم منها معاد للعرب والمسلمين وبشكل عام للمهاجرين من دول المستعمرات السابقة وافريقيا ..
لكن الاصعب الذي عمق الشرخ عاموديآ هي عبارة “الانفصالية الاسلامية” التي بدت الاقسى ان لم نقل الاخطر، لما لها من تأثيرات وانعكاسات على التركيبة الاجتماعية، مثيرة انقسامات ونقاشات وربما مزاعم لكنها لا تخلو من بعض حَقيقَة، حول انتهاك المسلمين والمهاجرين للقوانين الفرنسية. بالتوازي مع إنشاء او تأسيس نوع من “غيتوات” Getto مغلقة، وهي عبارة تشير إلى منطقة يعيش فيها طوعاً أو كرهاً مجموعة من السكان، يعتبرهم أغلبية الناس ذوي خلفية عرقية او دينية او ثقافية معينة؛ في اصل استخدامها الاشارة إلى احياء اليهود المغلقة مثل “الغيتو في مركز مدينة روما”.
كما تطلق الكلمة على وصف الأحياء الفقيرة والضواحي ذات الخصوصية العرقية الموجودة في المناطق المدنية الحديثة.
إستطرادآ، كان صادمآ في اوساط المسلمين والمهاجرين الافارقة من الجيل الاول والثاني، سواء الفئة التي اندمجت في المجتمع الفرنسي ثقافات وعادات وتقاليد، او تلك التي حافظت على بعض خصوصياتها، استخدام هذه العبارات من قبل شخصيات سياسية ورسمية. اذ زعمت وحذرت وزيرة التعليم العالي Frederique Vidal من ان اليسار الاسلامي بات ينخر صلب المؤسسات الاكاديمية الفرنسية. على نفس المحور التربوي اعتبر وزير التربية Jean-Michel Blanquer أن “الإسلام اليساري” يثير “الفوضى” في المؤسسات الاكاديمية الفرنسية معلنآ عن تحقيقات ستجري في هذه الحركات او التحركات. اما الرئيس الفرنسي Emmanuel Macron فاعتبر ان “الانفصالية الاسلامية” بات ينضوي تحت لوائها مجموعات تنتهك القوانين، تخطط وتحرض على تنفيذ هجمات واعتداءات على الاراضي الفرنسية، وهذا ما لن نسمح به.

 

من جهة اخرى، وفي استغلال سياسي واضح ومبتذل اصبح مصطلح “اليسار الإسلامي” مستخدمآ
على اعتياد من قبل سياسيي اليمين المتطرف، أداة فعالة لتشويه سمعة خصومهم من اليساريين المتهمين بالتغاضي عن مخاطر “التطرف الإسلامي”.. توازيآ، ذهب اليمين المتطرف الفرنسي والمجموعات العنصرية المناهضة لسياسة استيعاب المهاجرين الى الحد الاقصى، عندما بدأ يجمع بين المتطرفين الإسلاميين والمفكرين والمثقفين او الناشطين ذوى الميول الاصلاحية واللاعنفية اليسارية.!

من هذه المنطلقات السياسية والايديولوجية والدينية وبدفع وتشجيع من الرئيس ماكرون، وعلى اثر جريمة مروعة وقعت العام الماضى، عندما اقدم المدعو عبدالله انزوروف على قتل المدرس Samuel Paty ذبحآ إثر عرضه رسومآ كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد”عليه السلام” على طلابه. أقر مجلس النواب الفرنسى في شهر شباط الماضي مشروع قانون محاربة “الانعزالية الاسلامية” بهدف الحفاظ على الوحدة الوطنية ومقاومة التطرف “الاسلاموي” بما يعزز “مباديء الجمهورية الفرنسية”.. كما يكرس الرقابة القانونية على الجمعيات الدينية ومصادر تمويلها وتمويل انشطتها مع تشديد الخناق على وسائل التواصل الاجتماعي عبر الانترنت لكبح جماح نشر العدائية والكراهية المتبادلة..

على صعيد آخر؛ في بلد تكرست فيه العلمانية كاحدى اسس الكيان من خلال الفصل بين الكنيسة والدولة، باتت تطرح فيه اشكاليات كثيرة حول ممارسة الشعائر الدينية الاسلامية تحديدآ “ارتداء الحجاب، لباس السباحة (البوركيني) Burkini، رفع الاذان في المساجد” الخ… كما اختلطت فيه المفاهيم او اشيعت في اوساط العامة سواء جهلآ، عفوآ او تخطيطآ، لا بد من التوضيح بدايةً ان “نظرية المؤامرة” ثابتة في اركانها حيث تمكنت المجموعات الارهابية المتطرفة من ابتداع وترويج اجتهادات وفتاوى وتفسيرات وممارسات بعيدة عن الاسلام لا بل لا تمت اليه بصلة، مما اكسبها شرعية ما في بيئات محددة تجهل مباديء واسس الدين الحنيف..

في الاوساط الفرنسية على تعدد مشاربها واصنافها اعتبر مشروع قانون “الانعزالية الاسلامية” في حتمية اقراره استجابة منطقية وضرورة وطنية لمواجهة الاسلام المتطرف (وفق ما وصِف) الذي يمثل ايديولوجيا معادية للمبادىء والقيم التي قامت عليها فرنسا.. بالمقابل؛ لا بد من الاخذ بعين الاعتبار ان هذا القانون قد يشد عصب التطرف اليميني والتمييز الديني، بالتزامن مع خشية من افراط في العنصرية العرقية والدينية، بما يصيب المجتمعات الاسلامية ويشوه صورتها في دول الهجرة المقصد باضرار جسيمة ..
لاحقآ واستدراكآ؛ اعتبر الرئيس ماكرون ما صرح به او نُسب اليه من عبارات قد شُوه في استغلال مبتذل من قبىل خصومه لاهداف شعبوية وانتخابية، مؤكدآ ان صحيفة (الفايننشال تايمز) اللندنية قد حَوَرَت عبارة الانفصالية الاسلامية Islamist Separatism بدلآ من «الاسلاموية نسبة للتيارات المتطرفة الارهابية» التي تنسب نفسها للاسلام..

في نفس السباق؛ اخفقت المؤسسات الدينية والثقافية والاعلامية الاسلامية في شرح واظهار الفرق وتعميمه بين الاسلام كدين رحمة وتراحم يتبعه اكثر من مليار ونصف انسان وبين الاسلاموية كايديولوجيا سياسية تتبناها مجموعات سياسية او عقائدية ، تقتبس من مفاهيم الشريعة السمحاء إنتقائيآ ما يناسبها او يخدم اهدافها (الجهاد، الدولة الاسلامية الخ… )من مواضيع تتعلق بتنظيم المجتمع، على اعتبار وتحت ستار أن الاسلام دين ودنيا..!
الموضوع قابل للغوص فيه و التوسع او الاسهاب في عرضه والحلول صفحات نظرآ لاهميته وارتداداته المستقبلية، اما التطرق الى دور الاجهزة الاستخباراتية المنغمسة في تلويث وتشويه صورة الاسلام منذ عقود، بما يصب في الاهداف الاستراتيجية للدول التابعة لها، فيمكن القول عنها و عن فبركاتها الكثير (حَدِث ولا حرج)..!
تاليآ؛ يبدو ان «اليسار الاسلامي، الانفصالية الاسلامية، الاسلاموية» اصبح في لب المؤسسات السياسية الفرنسية تشريعية وتنفيذية، لذا فإن التحديات المطروحة كبيرة وكثيرة تفرض معالجات، ليس اقلها نشر التوعية علمآ واعلامآ مع محاربة التطرف الديني فكرا وثقافة، أٓوَلَيست البدايات الدائمات للآيات البينات عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم).. كما تقتضي المعالجات ايضا مواجهة التنظيمات الارهابية التي ترفع راية الاسلام زورآ، استخباراتيآ امنيآ وعسكريا من الدول الاسلامية، فهي تهدد انظمتها وكياناتها قبل الدول الغربية..!
ختامآ؛ الاسلام احد الديانات السماوية الثلاث خاتمها وعلى مثالها، رسالة خير وسلام للانسانية جمعاء فيه الايمان سعادة والتوبة مغفرة، جمال الخَلقِ ونبالة الخُلُق، قلوب تنبض بالرحمة والحب. في الشهر الفضيل قد نُذَكِر الظالمين من ساسة وحكام إن منا أو من غيرنا ان قرأوا، فَنستذكر قول الامام علي (راع) عَلَّ الذكرى تنفعهم؛ إذ سُئِل: ما الفاصلة بين الارض والسماء؟؟ أجاب: مَدِ ألبَصَر وَ دَعوَة المَظلوم..

بيروت في 17.04.2021
*كاتب وباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية.