“سترة من المخملين” تحولت الى غنمة… مسرحية تشخص داء المجتمعات الانسانية بلا دواء

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

“سترة من المخملين” مسرحية كوميديا سوداء ساخرة، تشير الى الآفات والأمراض الاجتماعية التي تعيق تطور المجتمع مثل الفساد. وهي تنتمي الى المسرح البلغاري لكن موضوعها يصلح لكل مكان وزمان في هذا العالم.
نتوقف عند كاتب ساخر يعدّ من أشهر كتّاب الكوميديا المعاصرة وهو الكاتب البلغاري ستانسلاف ستراتييف المولود في مدينة صوفيا عم 1941.
في أعماله، ربط المؤلف ربطا وثيقا القضايا الاجتماعية بالقضايا الأخلاقية والنفسية. وقد سعى الى تقديمها بأشكال متنوعة في قصصه القصيرة والطويلة. أما في المسرح، فقد صدرت له مسرحيات أحدثت أصداء واسعة في بلغاريا بعد عرضها على مسرح الحكومة الساخر أهمها: “الحمام الروماني”، “الحافلة” و”سترة من المخملين”.
تبدأ المسرحية بحادث يومي ألفه الناس حتى أنه لم يعد يثير دهشة أحد ولا استغرابه لكثرة وقوعه. فالأستاذ الجامعي “ايفان أنتونوف” يذهب إلى حانوت بيع الملابس ليشتري سترة له فلا يجد سوى سترة واحدة في الحانوت فيضطر الى شرائها. وتبدأ مأساتها:

كانت السترة ذات وبر طويل فراح الناس يسخرون منه ومنها. يحاول قص وبرها بالمقص فلا يفلح. يذهب الى الحلاق ويطلب منه أن يقص وبرها فيظن الحلاق أن به مسّا من الجنون فيطرده. فيذهب الى مزرعة ويجزها حيث يجز الغنم. ولما كان جز السترات غير مسموح به فانهم يسجلون في سجلاتهم أنهم جزوا غنمة خاصة ويسجلون اسم صاحبها وعنوانه ورقم هويته الشخصية ومهنته. وبعد زمن يستدعى الأستاذ بإشعار رسمي ليدفع الرسوم المستحقة على تربية الغنمة. ويذهب مع صديقيه الى حيث ينبغي أن يذهب كي يوضح الأمر فيدخلون ويدخلوننا معهم الى متاهة لا يعرف أحد سبيلا للخروج منها. انها عالم عجيب يجري فيه التعامل بالوثائق والأرقام ولا مكان فيه للانسان أو المنطق الانساني.
ويتعب رفيقا الأستاذ من السير وراءه في سبيل اثبات أن السترة ليست غنمة. وتنهض من بين الموظفين الذين صاروا أشبه بالآلات التي تدار مركزيا فتاة أرهق إحساسها الإنساني رتابة العمل وقسوته وخلوه مما هو إنساني. وتخاطر بمستقبلها في سبيل إظهار الحقيقة التي يعرفها الجميع ويطمرونها بعشرات الأخطاء كل يوم وتمضي مع الأستاذ الى أن يتضح الأمر.
ترينا المسرحية نوعين من التعب: الأول ناجم عن الرغبة في حياة مستقرة في بيت مع الزوجة والطعام المنزلي وما يستتبعه ذلك. والثاني هو التعب من الاصرار على الموقف الأخلاقي-المبدئي. وهذا الصديق لا يستحي من أن يعلن أنه كان يسير مع صديقه ليراه لحظة تحطّمه وانهيار قيمه. أما وقد وجده ممن لا يتحطمون ولا ينهار بنيانهم الخلقي فقد أعلن غضبه عليه، وتخليه عنه وعن مبادئه التي لن تجد تجسيدا لها على أرض الواقع.
ويتابع الأستاذ ورفيقته معركتهما الصغيرة ويخاف البيروقراطيون تفاقم المسألة. فيصدر أمر من فوق الى من هو في الوسط ويجد هذا حلاّ: تذبح غنمة وهمية في المؤسسة بأمر من النقابة اذ يحتفل ببلوغ عامل وديع الستين من عمره وهو في السادسة والخمسين، ويحال الى التقاعد لعمله عشرين عاما في المؤسسة. وتقرقع الصحون والملاعق، ويمثل المدعوون دور من يأكلون اللحم وهم لا يأكلون شيئا. وتكون حيرة العامل المحتفى به أكبر من أن يستطيع اخفاءها لكنهم يزجرونه بيصمت. ويغمر المحتفلون الظلام. أما الأستاذ الذي ينظر الى هذه الجوقة من المنافقين ساخرا فينظر الى سترته بإعجاب ويهنئها لعودتها سترة حقيقية ثم يرتديها باعتداد. وتنتهي المسرحية وتبقى الأمور معلقة كما بقي معلقا ذلك الموظف الذي تعطّل به مصعد المؤسسة التي ندور في غرفها وممراتها أكثر أحداث هذه المسرحية.
وقد انعكست على صفحات هذه المسرحية عيوب النظام الاداري في بلغاريا فلم نر له حسنة واحدة وهذا ما يميز الأعمال الابداعية الناقدة والساخرة. فالسخرية هي فن تضخيم العيوب. وهذه المسرحية تعرّي بأسلوب كوميدي ساخر فيه نوع من الرمزية البيروقراطية والقوانين الجامدة التي وضعت في الأصل لخدمة المواطن وتسهيل المعاملات بين الناس غير أنها تصبح مصدر سعادة وشقاء عندما يقوم على تنفيذها موظفون ذوو فكر جامد ونظرة ضيقة واحساس بليد لا يبالون بالانسان ومصيره. هذه المسرحية باختصار تجسد سلبيات الواقع وتشخص الداء دون أن تصف الدواء. مسرح ستراتييف هنا لا يضع الحلول بل يجسد ويحلل ويدع الجمهور يتفاعل معه في طرحه تاركا له حرية التفكير وايجاد الحلول.