“زمن الخيول البيضاء” لابراهيم نصرالله.. الملهاة الفلسطينية في رواية

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

بدأ ابراهيم نصر الله مشروعه الروائي هذا في العام 1985 إعدادا وتسجيل شهادات وتكوين مكتبة خاصة بها لذا فإن الرواية التي كان من المتوقع ان تكون الأولى اصبحت الاخيرة. والروايات الخمس التي سبقت “زمن الخيول البيضاء”هي: “طفل الممحاة” و”طيور الحذر” و” زيتون الشوراع” و”أعراس آمنة ” و”تحت شمس الضحى”. وقد ترشحت الرواية لجائزة البوكر العربية عام 2009 وتُرجمت إلى الإنكليزية والى الدنماركية مؤخرا.
ابراهيم نصر الله:” أنا لم أعش فترة النكبة كوني من مواليد عام 1954 في مخيم الوحدات في الاردن لكني استمعت الى شهادات بعض من عاشوا النكبة من اربع قرى فلسطينية حملوا الحلم ذاته، وماتوا الميتة ذاتها غرباء، هذه الرواية أهديها الى أرواحهم. وأهديها ايضا للكتاب الفلسطينيين والعرب الذين ساهمت مذكراتهم وكتبهم في اضاءة الطريق لي فجاءت روايتي زمن الخيول البيضاء في 505 صفحة”.
اذا هذه الرواية هي جزء من الملهاة الفلسطينية التي كتبها الأديب ابراهيم نصر الله، وتنقل صورة واقعية وتأريخية لحقبة من الـزمن مرت فيها البلاد من أواخر القرن التاسع عشر وحتى النكبة.
تجري أحداث الرواية في قرية الهادية التي هي من خيال الكاتب، وينقل فيها صورة عن القرية، سكانها، عاداتها وتاريخها ليعيش القارئ بين منازل القـرية ويمضي في السهول التي تحيطها، ويطّلع على العديد من القرى والمدن الفلسطينية مرافقا بطلها “خالد” من ايام شبابه وحتى لحظة موته.
ابراهيم نصر الله:” تتألف روايتي من ثلاثة كتب أو أجزاء بعناوين: “الريح” و”التراب” و”البشر”. وهذا التقسيم يشكّل البنية التاريخية والفنيّة والرمزية الأساسية للرواية. فمن الناحية التاريخية يغطي كل كتاب مرحلة تاريخية سياسية من تاريخ فلسطين الحديث من الربع الأخير للقرن التاسع عشر وحتى عام النكبة، ألا وهي على التوالي مرحلة الحكم التركي ومرحلة الانتداب الإنكليزي ثم الهجمة الاستعمارية الصهيونية، ويتوازى ذلك مع ثلاثة أجيال من البشر من عائلة الحاج محمود في الهادية وهم الحاج محمود والحاج خالد محمود، ومحمود الحاج خالد، وثلاثة أجيال من الخيول تتمثّـل في الـمهرة وابنتها وحفيدتها”.
الكتاب الأول في الرواية “الريح” يحكي عن الهادية، قرية فلسطينية بالقرب من القدس. ويقول الدكتور فيصل درّاج في معرض استعراضه للرواية:”على مجاز الخيول، إذ الخيل مرآة للتناسق والجمال والأرواح الهادئة، وإذ الفلاح الفلسطيني مرآة لخيوله البيضاء، فهي امتداد له وهو امتداد لها، والطرفان إعلان عن زمن مبارك لا يقرب الإثم ولا يعترف به”.
إبراهيم نصر الله : واقول أنا في مستهل الرواية مستشهداً بقول عربي: “لقد خلق الله الحصان من الريح … والإنسان من التراب”. وهذا القول يشير إلى العلاقة الروحية والجمالية بين الخيول والإنسان والأرض حيث إن الخيول ارتبطت بالروح بما تمثله من صفاء ونقاء وجمال ووفاء. فالريح من الروح “وريح” اسم حصان خالد والريح في شكلها الهادئ هي “الروح الهادئة”، هي “الحمامة”، الطائر والـمهرة “ناصعة البياض” وهي الـمرأة بكل ما تعنيه من النبل والوفاء وجمال الروح كما هي ممثلة في ريحانة الأدهم وأمل بنت الحاج سليم وسمية البرمكي زوجة خالد وفاطمة الحاج خالد أبطال روايتي”.
اذا الخيول البيضاء هي آيات الجمال التي تصهل مع الريح في بيادر الفلاحين، تغازلهم وتدندِن معهم أغانيهم. فخالد بطل الرواية ظل متسمِّراً في الأرض لحظة وقوع بصره على الفرس الأبيض الأصيلة التي ضلت طريقها ووجدت نفسها في قرية “الهادية”. من لحظتها صار خالد و”الحمامة” زوجاً واحداً, يناديها بصوته فتصهل مجيبة. بعد زمن قصير يأتي أصحاب “الحمامة” الأصليون يطالبون بفرسهم. تسيل دموع عند الفراق، لكن الناس “الأصايل” يلحظون علاقة العشق الجديدة فيقطعون العهد على أن يرسلوا “حمامة” أخرى للشاب العاشق من سلالة “الحمامة” الأم هنا تتناسل الخيول وأصحابها منذ فجر الخلق.
ابراهيم نصر الله: ترافق “الحمامة” ثم ابنتها خالد في كل مقاوماته ضد الأتراك، ثم الإنجليز ثم المستوطنين اليهود. في كل غيباته مع رفاقه في الجبال كانت الحمامة أمه وأخته وحبيبته. تعرف الطريق إلى “الهادية” فتروح وتجيءـ به أو لوحدها، تبحث عنه إن جرح، وتحمله على أكف الحب وتعيده إلى دفء أمه في القرية التي كانت غربان العملاء والغزاة تطبق عليها الحصار شيئاً فشيئاً. خالد صار “الحاج أبو محمود”، كبر لكن همته ظلت شابة. هو ورفاق الرصاص القليلون ظلوا ممسكين على أعقاب بنادق قديمة. كانت المدافع الرشاشة في أيدي أعدائهم تهزأ بسلاحهم. كانوا يبعثون الرسل والرسائل إلى القاوقجي وقوات الجامعة العربية التي تكدس السلاح وتجمعه يرجونها العون والمساعدة، فيأتي الرد: سلموا أسلحتكم واتركوا القتال لجيوش العرب التي ستأتي. يسقط “الحاج أبو محمود” شهيداً ولا تأتي الجيوش. ويسيل دمع الحمامة سخياً وتختفي.”
في زمن الخيول البيضاء كان الحاج محمود و”الهادية” و”الحمامة” و”الغزالة” التي تستجير به وتلتف حول ساقيه طالبة الحماية والحمام الزاجل الذي يطير برسائل الثوار بين بعضهم بعضاً كائنات مخلوقة من حب أبيض. كانوا عجين “الريح والتراب والبشر” وجذوع الشجر وجذورها من لحظة أن صار في الكون سنابل تنمو وخيول تصهل.
ابراهيم نصر الله:”ليست “الحمامة” هي الخيل الوحيد التي تذرع الأرض عشقاً وانطلاقاً عندما يمتطيها “الحاج أبو محمود”. كان هناك “فضة” و”الأدهم” و”الشهباء”. لكل منها عاشق أو عاشقة. هذه الكائنات الأصيلة تفهم لغة أبناء الأرض. لا الغرباء ولا العملاء يستطيعون الهمس إليها أو الحديث معها. كان “الأدهم” خيلا عملاقاً, جبلا من الكبرياء لا يرتقيه إلا صاحبه. يحنو على “ريحانة” وزوجها ويبادلانه الحنو.
يحاصر الضابط الإنجليزي بيترسون قرية “الهادية” باحثاً عن السلاح والمقاومين ويفشل في العثور على شيء فيأمر بتلغيم القرية ونسفها. يومها لم يسمح لهم بإخراج شيء من القرية. لكن أهلها رجوه أن يخرجوا الخيول -الخيول فقط. كان بيترسون يتقهقر أمام نظرات الخيل الأصيل، نقطة ضعفه الوحيدة، فسمح بإخراجها.
ابراهيم نصر الله: ما دامت الخيول تركض في بيادر ما فإنها تنتزع زمنها الخاص بها من الشمس. لكن كان على أهل القرية أن يتعلموا الدرس القاسي والمتأخر. كان عليهم أن يخسروا القرية وبقية القرى، ويكتشفوا عمالة العميل، ونذالة النذل، قبل أن يتعلموا الدرس. حاولت من خلال هذه الرواية ان أكرّس مفهوم الوعي الفلسطيني الذي ما فتئ يقاوم الاستعمار فكتبت: انا لا أقاتل كي انتصر بل كي لا يضيع حقي. لم يحدث ان ظلت امة منتصرة الى الأبد، أنا اخاف شيئا واحدا: أن ننكسر الى الابد لأن الذي ينكسر الى الأبد لا يمكن ان ينهض ثانية. وأنهي روايتي بنشيد سميّة وهي تودّع قبور زوجها وولديها وأحفادها ، والحرائق تنهش القرية الهادية، بعد غروب الشمس بقليل تحركت الشاحنات ، وسمية في عتمة عربة التهجير من الأوطان فتقول:عَمَّي يا أبو الفانوس نوّر لي ها العتمة خوفي الطريق يطول يابا ويطول معك همّي”.

———————————