روسيا والصين هل تلتقيان؟ ( 1 / 2 )

 

بقلم : توفيق شومان
قد يكون الأمير شكيب ارسلان ، أول المفكرين العرب الذين استشرفوا النهضة الصينية منذ آواخر القرن التاسع عشر، فرغم الواقع الصيني المأساوي والتخلفي آنذاك ، واحتمال أن يذهب الأوروبيون بالتشارك مع الأميركيين واليابانيين والروس إلى تقاسم الصين نفوذا وأرضا وخرائط ، فقد كتب سلسلة مقالات عن ” مستقبل الصين ” في مجلة ” المقتطف ” المصرية ابتداء من العدد الصادر بتاريخ 1ـ 8 ـ 1900 ، وفي مقالته الأولى قال : ” نحن سنشرح العناصر الحية في باطن المملكة الصينية والأسباب التي بمثلها تقوم الدول وتستتب الأمم ، ولما كانت الصناعة من أمهات العمران وبناء الأمم وما اشتهر به الصينيون من قديم الدهر ، فهي من أحيا عناصرهم وأسلم أعضائهم … إذ لا يمضي مدة بعد أخذ الأوروبيين للصين حتى يأخذ الصينيون جميع ما بأيدي الأجانب من الصنائع “.
في الخامس من آب / أغسطس 1949، كتب مندوب لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة ، شارل مالك ، رسالة إلى الحكومة اللبنانية بعنوان ” تقرير في الوضع الراهن ” قال فيها : ” يجب أن نتعاون تعاونا وثيقا مع نهضات آسيا وخصوصا نهضات العالم الهندي … إن آسيا آخذة بالنهوض ، والدور الذي ستلعبه في السياسة العالمية آخذ بالإزدياد ، وهذا النهوض هو أقرب شيء إلينا ، وعلينا أن نستفيد منه إلى أقصى حد ، لا سيما واننا نحن آسيويون “.
هذه التعويل المبكر على نهضة آسيا من قبل شكيب ارسلان وشارل مالك ، سيأخذه المفكر المصري أنور عبد الملك إلى مستوى نظري وإيديولوجي رفيع من خلال كتابيه ” ريح الشرق ـ 1983″ و ” تغيير العالم ـ 1990 ” ، ويرى في كتابه الثاني أن المشروع الحضاري العربي و ” استراتجيتنا الحضارية العربية في قلب نهضة شعوب الشرق في عصر اندلاع ريح الشرق الذي يجمع بين صحوة حضارات شعوبنا الشرقية وعزمها على تأكيد مكانتها واستقلال قرارها “.
في الشرق الآن ، قوتان ناهضتان ، الهند والصين ، الأولى متأخرة عن الثانية وسلحافتية في حركتها ونهضتها ، تبقى الصين وإلى جانبها قوة ” أوراسية ” هي روسيا بطموحاتها الإستراتيجية والإمبراطورية ، وهنا بيت القصيد في سؤال مطروح ومشروع : هل تتطابق استراتيجيات روسيا والصين في دول الإقليم ، والمقصود دول الشرق الأوسط ؟.
ثمة وجهتا نظر حيال ذلك ، واحدة تقول بأن ثقل التاريخ بين روسيا والصين ، يحول دون تقارب استراتيجيات الطرفين ، وأخرى ترى أن الصينيين والروس خرجوا من أثقال التاريخ وأعبائه .
كيف ذلك ؟
وجهة النظر الأولى ، تنطلق من زوايا العلاقات التاريخية المعقدة بين روسيا والصين ، وفي تلك الزوايا وقائع مشحونة بالخلافات والصراعات المتفجرة المقرونة بالأطماع الروسية بالصين ، ومنها :
تحفل المطبوعات العربية الصادرة في آواخر القرن التاسع عشر بما تسميه ” المسألة الصينية ” وخلاصتها التنافس الروسي مع كل من اليابان والولايات المتحدة والدول الأوروبية حول تقاسم النفوذ في الصين أو تقسيمها بين الدول المتنازعة ، وعلى سبيل المثال أوردت مجلة “المنار ” التي كان يصدرها محمد رشيد رضا في القاهرة تقريرا مطولا بتاريخ 14 ـ 11ـ 1899، عن ” انشغال روسيا وانكلترا وسائر دول أوروبا الكبرى بالمسألة الصينية ، فروسيا تطمع بالصين الفيحاء البعيدة الأرجاء ، ولا بد لإنكلترا وفرنسا والمانيا من مزاحمة روسيا “.
وفي عددين متتاليين من “المشرق ” البيروتية كتب لويس شيخو (15ـ 8 ـ 1900 و 15 ـ 9 ـ 1900) عن ” الصين والمسألة الصينية ” حلقتين تفصيليتين عن واقع الصين وحروب القوى الكبرى عليها واحتمال تقسيمها ، وفي العدد الصادر بتاريخ 1ـ2 ـ 1903، أوردت ” المشرق ” أن اليابان وإنكلترا تحالفتا في العام الماضي على حفظ الصين من كل تهديد ، وقررتا بقاء كوريا ومنشوريا تابعتين لمملكة ابن السماء ، ونيتهما بهذه المحالفة ، أن يتعرضا لروسيا في الشرق الأقصى ” ، ونظير ذلك كتب شكيب ارسلان في ” المقتطف ” في الأول من آب / أغسطس 1900 قائلا : ” الدولتان الكبيرتان اللتان في يدهما زمام المشرق ، وأعني بهما انكلترا وروسيا ، تجتهد في تخطيط منطقة نفوذ لنفسها في بلاد الصين كي يكون لها مهد مملكة مستقبلية هناك ، ويسعى كل فريق في تأمين نصيب واف في هذه التركة الكبرى “.
وفي تاريخ الصراع الدولي على الصين ، تتقدم الحرب اليابانية ـ الصينية عام 1894، لتسجل اليابان انتصارا ساحقا على الصين ، أعقبه زحف روسي نحو مقاطعة منشوريا الصينية عام 1900، ولما رفضت روسيا الإنسحاب من منشوريا وتطلعت نحو التيبت أيضا ، تحالف اليابانيون و البريطانيون عام 1902 لصد التمدد الروسي في المملكة الصينية ، وبعد أقل من سنتين على هذا التحالف ، ستندلع الحرب اليابانية ـ الروسية ، مقفلة الستار عام 1905 على هزيمة روسية مدوية وانتصار عسكري صيني كبير .
لم تقفل حرب 1904 ـ 1905 بين روسيا واليابان ، نوافذ التفاهم بين الدولتين الكبيرتين على تقاسم النفوذ في الصين ، فقد توصل الطرفان عام 1907 إلى توافق على صوغ خرائط نفوذهما في منشوريا ، وفي عام 1910، تعهدا بالدفاع عن مصالحهما المشتركة في الصين بعد اشتداد وطأة التدخل البريطاني ـ الفرنسي ـ الأميركي ـ الألماني ، وفي عام 1912، اتفقت روسيا واليابان على أن يكون للأولى الشطر الغربي من منغوليا ، وللثانية الشطر الشرقي .
وفي سياق الصراع مرة ، والتفاهم مرة أخرى على الصين ، بين روسيا القيصرية واليابان ، فإن روسيا السوفياتية وريثة القياصرة ، لم تبد موقفا سلبيا من الغزو الياباني لمنشوريا عام 1931، إلا أن انضمام اليابان إلى الحلف الإيطالي ـ الألماني عام 1936، أفضى بالقادة السوفييت إلى التنديد بالتوسع الياباني ، وهو أمر استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، حيث طرد الجيش الأحمر السوفياتي القوات اليابانية من مقاطعة منشوريا وغيرها من الأراضي الصينية .
وعلى ما غدا معروفا ، فإن انتصار الثورة الشيوعية في الصين عام 1949، أدى إلى تقارب روسي ـ صيني غير مسبوق ، تمثلت ذروته عام 1950 بتوقيع اتفاقية ” الصداقة والدفاع ” بين الجانبين ، وأسهمت الحرب الكورية التي نشبت في العام نفسه برفع مستويات التقارب والتعاون إلى حدود إرسال عشرات آلاف المستشارين السوفييت إلى الصين ، فنيون وعسكريون ، غير أن هذا التقارب سرعان ما راح يشهد تراجعا مضطردا منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين ، ومع حلول عام 1959، انفجر الصراع العلني بين الإتحاد السوفياتي والصين على مصراعيه ، آخذا هذه المرة بُعدا إيديولوجيا ، كان يعبر عنه الصينيون بمقولتين : ” التحريفيون الجدد” و ” الإمبريالية السوفياتية “.
ـ يتبع : جزء ثان وأخير.
………………………………………….