ذكرى 13 نيسان .. يوم انتصرت الاحزاب وهُزمت الدولة

بقلم : توفيق شومان*

قبل الحرب المشؤومة في عام 1975، تنازعت الأحزاب اللبنانية وأبدعت في شعارات الفرقة والشرذمة ، ولما تحول النزاع صراعا، سقطت الدولة وبقيت الأحزاب .
كأن استراتيجية الأحزاب تمحورت حول تقويض الدولة ، ومنذ عقود خمس ، مازالت الأحزاب فوق الدولة ، وما زالت الدولة تحت الأحزاب .
وعلى ما يظهر ، أن الدولة المتخيلة حزبيا ، إما أن تكون على شاكلة هذا الحزب أو ذاك أو ذلك ، وإما لا تكون .
عشية حرب عام 1975، كان الحزبيون من يمين ويسار ناقمين على الدولة ، أهل اليمين مجتمعون في ” الحلف الثلاثي ” لمواجهة نهج ” الشهابية ” ، وأهل اليسار لمواجهة النظام ” اللبناني العميل “.
لأول مرة يتحد اليساريون واليمينيون لإصطياد الفريسة ، والفريسة هي الدولة اللبنانية .
الإنتقام الحزبي الأول من الدولة اللبنانية تمثل ب “الحلف الثلاثي ” في انتخابات عام 1968 حين تجمهرت ” أحزاب اليمين ” لمواجهة النهج الشهابي ، وهذا ما أسهم في دفع البلاد نحو الحرب كما يقول رئيس ” الشعبة الثانية ” في الجيش اللبناني غابي لحود في كتاب ” ذاكرة الإستخبارات ” لغسان شربل.
بعد ” الحلف الثلاثي ” : راح الرئيس الأسبق للجمهورية فؤاد شهاب يتساءل من معزله : الى أين ستذهب البلاد؟.
إلى الحرب يا فخامة الرئيس ، وهكذا كان …
أولى ملامح الحرب ارتسمت مع واقعة ” 23 نيسان 1969″ ، بين ” أحزاب اليسار ” والجيش اللبناني ، وعنوانها دعم العمل الفدائي من لبنان ، فسقط قتلى وجرحى ، فاشتعلت النفوس وتحاقدت الأفكار والنصوص ، لتضع الدولة اللبنانية أمام السؤال الكبير : ماذا بعد؟.
إلى إحراق قرطاجة كما قال القائد الروماني قبل ألفين من الأعوام.
حول واقعة ” 23 نيسان ” ومكانها في مسار التصارع الحزبي اللبناني ، ورد في ملحق صادر عن ” منشورات حركة انصار الكتائب ـ تشرين الثاني 1975 ” بعنوان ” لبنان والثورة الفلسطينية ” : في العاشر من نيسان 1969، عرض الملك الأردني الحسين بن طلال ، مشروع خطة سلام لإنهاء حالة الحرب مقابل انسحاب اسرائيل من الأراضي المحتلة في عام 1967، وقوبل المشروع برفض اسرائيلي وعراقي وسوري وجزائري بالإضافة إلى رفض المقاومة الفلسطينية ، وقد أيد المشروع الرئيس جمال عبد الناصر ، وأما في لبنان فقد أيدت الحكومة المشروع بشكل رسمي أثار ردود أفعال متباينة ، واستغل اليسار هذا الموقف ، وبدل أن تقوم التظاهرات في بغداد ودمشق والجزائر وعمان ، تداعت الهيئات والقوى الوطنية والتقدمية إلى التظاهرفي بيروت “.
ويروي اللواء سامي الخطيبب ، الضابط القوي آنذاك (1969) في ” الشعبة الثانية ” ووزير الداخلية اللبنانية لاحقا ، أنه ذهب الى الأردن واجتمع مع ياسر عرفات وقال له : ” حرام ذاك الدم الذي سال في بيروت ، هذا الدم يجب أن يراق على الحدود ، تعالى نتفق وإياك ، على أن يكون لبنان مصرفكم وإعلامكم ومنبركم السياسي ” ، (سامي الخطيب ـ زيارة خاصة ـ حوار: سامي كليب ـ قناة ” الجزيرة ” ـ 4ـ 5 ـ 2009).
أعقب واقعة ” 23 نيسان ” ، ما يُعرف ب “حادثة طائرة الميراج “، فقد سعى الإتحاد السوفياتي إلى اختطاف طائرة “ميراج” لبنانية مقاتلة ، وعمل على تجنيد ضابط طيار في الجيش اللبناني ، هو محمود مطر ، وأبلغ مطر قيادة الجيش بذلك ، فطلبت منه متابعة المهمة حتى استكمال حلقاتها الختامية وافتضاح الأمر بالجرم المشهود ، وهذا ما حدث بالضبط ، فثارت الثائرة جراء هذه السقطة السوفياتية العاثرة ، ( تفاصيل العملية : محمود مطر ـ ذاكرة الإستخبارات : غسان شربل ـ المكتب الثاني حاكم في الظل : نقولا ناصيف) .
حول ” حادثة الميراج ” يقول كمال جنبلاط : ما كان يجب أن ” نشرشح ” الإتحاد السوفياتي بهذه الطريقة ، على ما يروي غابي لحود.
ويقول محمود مطر: اتهموني عميلا أميركيا .
تلك الحادثة ، سيكون لها تأثير خطير على طريق تفكك الدولة اللبنانية ، لإرتباطها بالإنتخابات الرئاسية في عام 1970 ، حين اجتمعت الأحزاب ومن معها لإسقاط ” المرشح الشهابي الياس سركيس ، فأسقطت معها الدولة وفي صلبها الأجهزة الأمنية.
هنا يسأل الرئيس الياس الهراوي في كتاب ” عودة الجمهورية ” ، وكان من معارضي ” الشهابية “:
“هل كانت الخطوة التي شلت جهاز المخابرات سليمة ؟ لم يكن من السهل الإجابة يومذاك ، نظرا إلى أجواء الضغينة التي كانت تسود الحياة السياسية “.
يقول باسم الجسر في كتابه ” فؤاد شهاب ذلك المجهول ” ، عن الإنتخابات الرئاسية في عام1970، وما واكبها من اعتراض سوفياتي على المرشح الشهابي الياس سركيس جراء ” حادثة الميراج ” :
ـ ” قال لي رئيس مجلس النواب صبري حمادة إنه سعى لإقناع كمال جنبلاط بإنتخاب الياس سركيس ، فقال له جنبلاط : أنا مقتنع مثلك ولكن السفير السوفياتي غير مقتنع “.
ـ ” سمعت من رئيس الحكومة رشيد كرامي تعليقا على ” الفيتو ” السوفياتي على الياس سركيس ، قال فيه : ” يبدو أن أخواننا الروس أضرب منا ، فالقضايا الشخصية لا تقل عندهم عن تصفية الحسابات “.
نعود إلى ما قاله الرئيس الياس الهراوي حول عوامل الضغينة المتحكمة بالقوى السياسية ، ولا يبدو أن عقارب الساعة تقدمت إلى الأمام ، بل ما فتئت في وراء الوراء .
نقرأ التالي من ” الوراء ” الذي لم نغادره :
في الموسم الثقافي لعامي 1968ـ 1969، دعا النادي ” الثقافي العربي ” ، أحزابا وقوى سياسية لبنانية ، لمناقشة الواقع السياسي المحلي ، وقدم المؤتمرون أوراقا وتصورات تعكس الذهنيات والمنظومات الفكرية لأحزابهم ، فقالوا :
ـ رشاد سلامة عن حزب ” الكتائب اللبنانية ” : ” وطأة التيارات المستوردة اشتدت وجرفت هيبة الدولة وبتنا نخشى على : الحرية والنظام ، إن مفهوم العروبة دخلته استفاضات كثيرة خلال السنوات العشر الماضية ، بحيث بات هذا الإستفاض يرهبنا ، وأنا أريد أن أسأل المؤرخين متى كانت الدول العربية وحدة واحدة من المحيط إلى الخليج ؟ “.
ـ خليل أحمد خليل عن الحزب ” التقدمي الإشتراكي” : هدف الحزب إحداث انقلاب جذري شامل في لبنان ، وهذا الإنقلاب قد يتم عن طريق العنف الفجائي ، او عن طريق التفجر الثوري ، وقد يتم عن طريق العنف المتصاعد ، وقد يتم بطرق أخرى ، واشتراكنا في النظام لا يعني ولا بأي شكل أننا جزء من النظام ” .
ـ جوزيف مغبغب عن حزب ” الوطنيين الأحرار” : ” الشيوعية كعقيدة وكنشاط يقتضي اعتبارها خطرا ، وان الأنظمة اليسارية العربية المتطرفة ومن وراءها الشيوعية الدولية ، تعمل على تقويض مقومات الوجود اللبناني ، ومن شأن نشاط اليسار العربي لو استمر أن يطيح بالكيان اللبناني” .
ـ محمد كشلي عن منظمة ” الإشتراكيين اللبنانيين ” : ” النظام اللبناني وسيط في عملية نهب الثروة في المنطقة العربية من قبل الإمبريالية ، والنظام اللبناني قاعدة اقتصادية وفكرية وسياسية للمصالح الإمبريالية ، وإن النضال الوطني اللبناني المساند للكفاح الفلسطيني المسلح والمتفاعل معه ، سيطلق في وجه الوضع اللبناني تحديات سوف تلعب في تفكيك تماسكه الداخلي وفي خلخلة تركيباته الفوقية والتقليدية ” .
ـ كريم مروة عن الحزب ” الشيوعي اللبناني ” : ” الحلف الثلاثي الذي تشكل بعد نكسة الخامس من حزيران ، يشكل الحصان الرئيسي للطغمة المالية والإمبريالية وخصوصا الأميركية ، والهدف من ذلك تعزيزمواقع الرأسمال الأميركي في البلاد ، وتحقيق مخطط الدول الإمبريالية في المنطقة العربية بمواصلة الهجوم على الحركة التحررية العربية ” .
ـ نقولا الفرزلي عن حزب ” البعث ” الموالي للعراق : يشكل النظام اللبناني ، أكثر من أي نظام عربي آخر ، النظام النقيض لدعوة حزب البعث ” .
ما الذي تغير بين الأمس واليوم ؟
أحزاب تجتاح أحزابا بجحافل الخطابات، لا تترك مفردة من دون تحويلها إلى اتهام ، ولا تترك فاصلة ولا نقطة لا تحولها إلى رأس حربة ، و تستعين بما هب ودب من قواميس اللغة حتى تجلب من أحشاء الكلام كل كره وبغض وحقد ، ومن ثم تسأل بنصوصها الفتاكة والبطاشة : أين الدولة ؟.
هل أبقيتم دولة حتى تسألون عنها ؟!.
ما أبقيتم دولة … ولكن أبكيتم الناس .
عشتم وعاش ولبنان.

……………………………………………

*كاتب، باحث وإعلامي