المصارف اللبنانية أساءت الأمانة وانتحرت

بقلم د.هيكل الراعي*

المصرف، حسب أبسط تعريفاته، هو منشأة مالية، يلتقي فيها عرض النقود والطلب عليها. وهو مؤسسة هدفها قبول الودائع ومنح القروض والقيام ببعض الخدمات المرتبطة بهذه النشاطات.
إنطلاقاً مما سبق يمكن القول أن المصارف تقوم بما يلي:
أ- جمع الودائع وفوائض الأموال من الداخل والخارج وتحويلها، على إختلاف آجالها، إلى رساميل فاعلة بين شتّى أنواع التوظيفات…
ب- خلق النقد الخطي، وبالتالي المساهمة في زيادة عرض النقد التي تؤدي بدورها إلى زيادة حجم الطلب والنشاط الإقتصادي.
ج – تقديم خدمات شتّى لزبائنها لتسهيل عملياتهم المالية وحماية أموالهم وتثميرها، ما في ذلك تقديم المشورة وجباية الفواتير وإدارة بطاقات الدفع والإئتمان.

صاغة ومرابين وصيارفة

كانت المصارف في أولى مراحلها عبارة عن صاغة ومرابين وصيارفة ، نشأت في أواخر القرون الوسطى في مدن البندقية وجنوى وبرشلونة. حيث أنه بتقدم التجارة وظهور فائض في النقود الذهبية لدى التجار، بدأت ظاهرة إيداع النقود تظهر تدريجياً لدى بعض الصاغة، لإعتبارهم جهة مأمونة وموثوقة. كان المودعون يحصلون على شهادات إيداع إسمية. وما إن اكتشف الصاغة أن نسبة صغيرة من المعادن المودعة لديهم هو الذي يسحب بواسطة المودعين حتى بدأوا في تحقيق الربح بإقراض جزء من هذه الودائع. والجدير بالذكر أن الذهب لم يكن دائماً هو الذي يقرض وإنما أصدر الصاغة إيصالاتهم التي تتداول بين الناس كما لو كانت ذهباً. وبالتدريج بدأ العمل المصرفي ينتقل من الأفراد إلى المشروعات المساهمة، ومنذ القرن الرابع عشر سمح الصاغة والتجار لبعض عملائهم بالسحب على المكشوف أي سحب مبالغ تتجاوز أرصدتهم الدائنة مما أدى إلى إفلاس عدد من هذه المحال. هذا الأمر دفع عدد من المفكرين للمطالبة في الربع الأخير من القرن السادس عشر بإنشاء مصارف حكومية تحفظ الودائع وتسهر على سلامتها. وطالما أن المصرف يحتفظ بنسبة مأمونة من الإحتياطات النقدية فإنه يستطيع أن يخلق حجماً كبيراً من الإئتمان عن طريق تقديم قروض أو إعطاء تسهيلات سحب على المكشوف.
وعلى العموم يمكن تصنيف المؤسسات المصرفية ضمن نوعين: المصارف التجارية والمصارف المتخصصة، وتقوم على رأس هذين النوعين من المصارف مصارف الدولة أو المصارف المركزية.

المصارف التجارية

هي منشآت مالية غير متخصصة تسعى لتحقيق الأرباح. وهي المكان الذي يلتقي فيه عرض الأموال والطلب عليها. وقد توسّع دور المصارف التجارية في المرحلة الأخيرة بحيث أصبح يشمل مجموعة من النشاطات أبرزها:
تقديم المشورة والخدمات المحاسبية والمشورة المالية والقضائية، والمشاركة في المجموعات المصرفية المالية وتقديم التمويل اللازم للمشروعات العالمية، إضافة إلى إدارة الأموال وتنظيم الإستثمارات وسداد المدفوعات الدورية، وإدارة الشركات.
إذن المصارف التجارية هي مؤسسات إئتمانية غير متخصصة دورها الأساسي يقوم على قبول ودائع تدفع عند الطلب أو بعد أجل قصير: وهذه الودائع هي على ثلاثة أنواع: ودائع جارية أو تحت الطلب وودائع ثابتة لأجل قصير، وودائع إدخارية. لا يدفع المصرف عملياً أية فائدة على الودائع الجارية أو تحت الطلب إنما يمكن أن تسحب جزئياً أو بالكامل في أي وقت بإصدار شيكات. أما الودائع الثابتة فإنها سميت كذلك لأنها تترك لدى المصرف لمدة ثابتة معينة لا يمكن أن تسحب قبل إنقضائها ويدفع المصرف على مثل هذه الودائع فائدة أعلى. أما الودائع الإدخارية فإنها يمكن أن تسحب مرة أو مرتين أسبوعياً وهناك أيضاً حدود لجملة المسحوبات الأسبوعية. وقد أطلق إسم المصارف التجارية على هذا النوع من المصارف لإقتصار نشاطها في بداية الأمر على تمويل النشاطات التجارية.

دراسة مردودية الاستثمار

وتحتل المصارف التجارية مركزاً مهماً في الإقتصاد الوطني حيث تقوم بجمع ودائع المؤسسات الإنتاجية والمؤسسات الأخرى والأفراد ومدّخراتهم وتعيد إستثمار ما جمعت على شكل قروض قصيرة أو متوسطة الأجل . وهكذا فإن المصارف التجارية تقترض لتقرض بأشكال مختلفة للأفراد والمنشآت التجارية والصناعية والزراعية وغيرها تأميناً لحاجاتها من الأموال. هذه القروض تكون عادة لآجال قصيرة وبعضها يكون لآجال متوسطة من أجل تنشيط الإستثمار في القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والإسكانية. كما تقوم المصارف التجارية بتحويل الأموال من مكان إلى آخر ومن شخص إلى آخر عن طريق إستعمال الشيكات، مما يسهل الحياة اليومية للأفراد. وبالإضافة إلى ذلك تقدم المصارف معلومات ونصائح لزبائنها تتعلق بعمليات الإستثمار ودراسة المردودية او دراسة الجدوى الاقتصادية، كما تقوم بتأدية خدمات متنوعة (حفظ الأغراض الثمينة، شراء وبيع السندات والأسهم، تأدية الرسوم على أنواعها). يحقق المصرف أرباحاً عن طريق تقديم قروض ولكن المصرف يتعامل في أموال الناس الآخرين ويتعين عليه أن يحتفظ بنقد سائل حاضر لمقابلة طلبات المودعين. ومن ثمّ فإنه لا بد من الإحتفاظ بإحتياطات نقدية. فالمصرف يجب عليه أن يحقق توازن دقيق ما بين السيولية والأربحية. فإذا هو إحتفظ بأصوله في شكل زائد السيولية فإنه يخسر الربح، وإذا هو حاول أن يحقق ربحاً أكثر من اللازم فإنه قد لا يكون قادراً على تلبية طلبات المودعين.

الأموال الخاصة والأموال العامة

وعند الحديث عن الأزمة المالية الخانقة التي يُعانيها لبنان حالياً، من الضروري التمييز بين الأموال الخاصة التي تبخّرت والأموال العامة التي نُهبت وسُرِقت.
فودائع الناس في المصارف التجارية هي أموالٌ خاصة، كُلفت المصارف بإدارتها بطريقة ذكية وحكيمة مما يؤمّن مداخيل للمُودعين على شكل فوائد، ولأصحاب المصارف على شكل أرباح. هذا التكليف من المُودعين للمصارف قام على الأمانة والثقة، لذلك تُسمّى المصارف مؤسسات إئتمانية. كانت المصارف تتشدّد في تسليف الأموال للمُقترضين وتُخضعهم لدراسات الجدوى الإقتصادية لكل مشروع، قبل الموافقة على طلباتهم. والمشكلة أن أصحاب المصارف استغلّوا هذه الثقة الغالية التي مُنحت لهم وقاموا بتوظيف أموال المُودعين في شركات ومؤسسات خاسرة أو إقراضها إلى دولة مُفلسة او معرّضة للإفلاس، مُقابل أرباحٍ وعوائد مُرتفعة ومُغرية حصلوا عليها وقاموا، وبغمضة عين، بإخراجها من لبنان إلى حسابات محمية في مصارف دولية. وعندما جاء المُودعون إلى المصارف التي وثقوا بها لاسترداد بعض أموالهم وجدوا صناديقها فارغة وخاوية، وأصحابها يذرفون دموع التماسيح. هكذا تم تدمير القطاع المصرفي في لبنان على يد أصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها وكبار مدرائها، ومن الصعب جداً أن يستعيد هذا القطاع نشاطه بعد فقدان ثقة المُودعين به. لأن الخيانة التي تمت والإذلال الذي عاناه ويعانيه الناس على أبواب المصارف دمرا العلاقة بين الطرفين ومن الصعب جداً ترميمها.
أموالُ المُودعين الخاصة هذه تحوّلت في نسبة كبيرة منها إلى أموالٍ عامة بالتواطؤ المصلحي والمنفعي واللاأخلاقي بين مافيا المصارف والحاكم بأمره في مصرف لبنان ومختلف مكوّنات الطبقة السياسية التي توالت على الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية. هذه الأموال العامة (أموال المُودعين) لم تُستعمَل لإقامة البنى التحتية ولدعم القطاعات الإنتاجية ولخلق فرص عمل وزيادة نسبة النمو إلّا بشكل جزئي، وأُهدر القسم الأكبر منها على دعم ثبات سعر صرف الليرة وعلى المجالس والصناديق والهيئات والجمعيات (لزوجات المسؤولين) وعلى عجز الكهرباء المتراكم، وعلى مشاريع مَشبوهة تفوح منها روائح الفساد والنهب المُنظّم، وعلى نفقات كثيرة غير مجدية إقتصادياً أو إجتماعياً. لقد سُرِقَت الأموال العامة من قبل الطبقة السياسية في ظل موجات من الشعارات البرّاقة والوعود الكاذبة بالرفاه والنمو والنهوض الإقتصادي، واكتشف اللبنانيون أنه رغم مليارات الدولارات التي تمّ إنفاقها لا يزال لبنان يغرق في العتمة والنفايات ويفتقد إلى مختلف البنى والخدمات الأساسية. وبدل المبادرة من قبل الذين تولّوا المسؤولية خلال العقود السابقة الى إطفاء الدين العام أو تخفيضه، عُولج الدين بالدين فارتفعت الفوائد بشكل غير مسبوق، ليصل الدين العام الى ٩٠ مليار دولار. وفي ظل كباش دولي وإقليمي حاد على الساحة اللبنانية حول ملفات سياسية واقتصادية وعسكرية، أدّت مجموعة من القرارات المُفاجئة والمدروسة من صانعيها، إلى انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار بشكل غير مسبوق، وذلك بعد موجة تصريحات وتطمينات كاذبة أطلقها المسؤولون حول متانة هذه الليرة وحول استقرار الأوضاع المالية.

هكذا تبخّرت أموال المُودعين، أموال الناس، التي اكتنزوها لمواجهة أيام الضيق أو لمشاريع مستقبلية، في لعبة إجرامية أبطالها تماسيح المصارف الذين يذرفون الدموع، والحاكم بأمره في مصرف لبنان، وثعالب السياسة الذين يتنعمون بجنى عمر الناس.

——————

*باحث وأستاذ جامعي متقاعد