دفتر مايا .. بيت الارواح والعوالم الخفية

 

 

 

بقلم : فاطمة صالح صالح *
—————
منذ سنوات، تعرفت عليها في ( بيت الأرواح )، أعجبتني شخصيتها الحرة والجريئة، كما أغرتني معارفها الكثيرة،  بالمزيد من الإبحار في عوالمها الغرائبية، وكثيرا ماكنت أعجز عن التفريق بين الواقعي والخيالي في أحاديثها المشوقة، وقد أسرتني وأثرتني بالمعارف، والشخصيات، وطرائق العيش في بلدها والبلدان التي زارتها أو سكنت فيها.. فتتبعت آثارها في الكثير من أعمالها، ( بلدي المخترع) ( إيفالونا) ( حكايات إيفالونا ) ( الحب والظلال) ( باولا) ( مملكة التنين الذهبي ) ( الخطة اللانهائية) ( ابنة الحظ)…….. إلخ. انقطعت علاقتنا لعدة سنوات، إلى أن التقيتها صدفة من فترة قريبة، فاستعدت شغفي بالمزيد من الاطلاع على عوالمها المشوقة، عرفت مقصدي، فسلمتني ( دفتر مايا ) الذي تصفحته منذ فترة. لم توضح لي من هي ( مايا ) لكنني تكهنت أنها إحدى حفيداتها، وهي التي أعطتها الدفتر المكون من مئة صفحة، عندما ودعتها في مطار سان فرانسيسكو، وأرسلتها إلى إحدى الجزر البعيدة، شبه المنسية، في أرخبيل في أقصى جنوب تشيلي، لتعيش مع أحد أصدقائها القدامى، هاربة من أعدائها، وطلبت منها أن تكتب يوميات حياتها، كما كانت تفعل منذ كانت في الثامنة وحتى الخامسة عشرة. ولكي تملأ فراغها بتدوين الحماقات التي اقترفتها . علها تخفف من ضغطها على كاهلها.
عاشت مايا متخفية عن أعدائها المتربصين بها، في جزيرة صغيرة قد تكون غير مرئية على خارطة العالم، جزيرة ( تشيلوي ) في أقصى جنوب تشيلي، تبدأ يومياتها بالتعريف بنفسها (أنا مايا بيدال، تسعة عشر عاما…..عزباء  وليس لدي حبيب.. ولدت في بيركلي بكاليفورنيا.. لاجئة بصورة مؤقتة في جزيرة بجنوب العالم ) جدتها تشيلية مهاجرة إلى كاليفورنيا هربا من الديكتاتورية التي كانت تمارسها حكومة ( بينوشيه) بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة اليسار بقيادة ( سلفادورألليندي)عام1974م.أبوها كان طيارا. وأمها مضيفة طيران. تزوجا بتسرع، وندما بعد أسبوع من زواجهما. كانت الأم حاملا بمايا. كان أبوها يحلق في الجو عندما ولدتها أمها ولفتها ببطانية وأخذتها لبيت حميها حين كانت جدتها نيني تشارك في مظاهرة ضد حرب الخليج.
تحدثنا مايا أنها عاشت في كنف جدها وجدتها، في بيركلي بكاليفورنيا.. تعلقت بجدها بوبو كثيرا، فقد كان مهتما جدا بمراقبة النجوم والبحث في الفضاء عن نجوم جديدة، وجعلها تراقب النجوم مثله، أحبها ودللها كثيرا، فتعلقت به ولم تستطع تحمل غيابه بعد وفاته، فالتجأت إلى الكحول والمخدرات بأنواعها، وغرقت في ذلك المستنقع الآسن. رفاق سوء، إدمان، سرقة، دعارة، وكل ما يحقق لها الحصول على جرعة مخدرات، مهما كان قذرا..
بعد هروبها من أعدائها عادت إلى بيت جديها، فأدخلتها جدتها مركزا لإعادة التأهيل، وبعد أن كادت تنهي مدة علاجها واستعادتها لذاتها، هربت من المشفى، في أحد الليالي، وعندما وصلت إلى الطريق العام، أوقفت شاحنة كبيرة عابرة وصعدت قرب السائق الضخم الخشن الذي كان ضابطا متقاعدا من الجيش الأمريكي نتيجة إصابته، وأثناء الرحلة إلى لاس فيغاس، حيث سيصل هو إلى هدفه، على أن تركب هي سيارة أخرى توصلها إلى بيت جدتها في كاليفورنيا، اغتصبها السائق، بوحشية، بعد أن خدرها رغما عنها وقيد يديها وساقيها..
بعد وصولهما إلى لاس فيغاس، تلقفها تاجر مخدرات، وشغلها معه ببيع المخدرات مقابل تلقيها لحاجتها المتزايدة لأنواع كثيرة منها ومن الكحول.. وثق بها جدا، وأطلعها على أغلب أسرار صنعته وهددها بالقتل إن هي خانته، وبعد أن قتلته عصابة أخرى منافسه له في تجارة المخدرات، أدركت أنها صارت هدفا أولا لتلك العصابة، لأنها كاتمة أسرار عدوهم، الذي تخلصوا منه، فراحت تبحث مع أحد أصدقائها عن سبيل للهرب والابتعاد عن عيون العصابات التي تلاحقها، وعن عيون مكتب التحقيقات الفيدرالي، لكن المسألة صعبة جدا وخطرة جدا.. وبمساعدة صديقها، تمكنت من الهرب والاتصال بجدتها نيني في كاليفورنيا، التي توخت الحذر الشديد عندما قادت سيارتها الفوكس فاكن بسرعة هائلة، لتحضر حفيدتها الضالة، ولم تكتف بذلك، فقد اتصلت بصديقها القديم في جزيرة تشيلوي في أقصى جنوب تشيلي، وأرسلتها إليه لتعيش عنده بأمان، بعيدة عن كل ما يمكن أن يهددها،


ولم يكن صديق جدتها، سوى جدها لأبيها، لكنها عرفت ذلك بالصدفة..
دفتر مايا، غني بالتفاصيل، ويعرفنا على عوالم كثيرة، منها عيشة تجار ومتعاطي المخدرات، والمستنقعات الآسنة للمدمنين، كما يعرفنا على طبيعة الأرخبيل النائي الساحرة وغير المألوفة، البعيدة كل البعد عن مايدعى حضارة، وتحكي لنا مايا في دفترها هذا عن الفظائع التي كانت ترتكبها حكومة ( بينوشيه) اليمينية المتطرفة، كما تتطرق إلى عهد سلفادور ألليندي، زعيم اليسار التشيلي الذي اغتيل على أيدي اليمين المتطرف..
( دفتر مايا ) زادني إعجابا ومعرفة بعوالم ( إيزابيل ألليندي) التي تغريني دائما بالمزيد من مطالعة رواياتها..

————————-
* كاتبة وروائية سورية