حنين الى بيادر القمح في عربصاليم والخلئينة والمورج .. والى يدي جدتي

 

بقلم : محمد حسين لمع

يمكن أن يكون أيّ يوم من النصف الثاني من حزيران، أو أي يوم من شهر تموز أو النصف الأول من شهر آب. يوماً لسلق القمح و إعداد “السميد” تمهيدًا لجرشه وتحويله إلى “برغل” بأصنافه العديدة واستخداماته المختلفة.
مع بداية شهر حزيران المبشّر بحماوة الصيف والممهد لتموز، حيث “تغلي الماء في الكوز و”لآب اللهاب”، تكتسي السنابل لونًا ذهبيًا وتنتصب بعد أن خفّ وزنُها و فرغت من كل أشكال الحياة، و تصبح جاهزةً للحصاد.

مروجٌ من اللون الأصفر تلفحها نسمةٌ صغيرة فتشق طريقها بين السّيقان وتعبر كموجةٍ لا تنتهي الا في آخر الحقل.
لم تكن في طفولتي الحاصدات الآلية قد ازدهرت بعد، بل كان الفلاحون يتسلحون بمناجلهم السوداء و يغزون المروج اليابسة يحصدون سنابل الخير بأيديهم.

حتى ان منهم من لم يستسلم للتكنولوجيا فيما بعد مع أنها تجعل الحصاد مريحًا وتجنّب الحصّاد خطر لدغات الافاعي السامة التي تنتشر في السهول بحثًا عن فأر الحقل.

حافظ الفلاحون على الطريقة البدائية بحصاد القمح لسبب وجيهٍ لا يفهمه الا من كان مربّيًا للمواشي، فالحصاد بالمنجل يتيح حصد السنبلة بكامل ساقها بينما تترك الحاصدة الآلية سنتيمترات قليلة في الأرض مما ينقص كمية التبن الذي يستحيل علفًا للحيوانات.
بعد الحصاد كان القمح يُجمعُ في أغمار كبيرة عند البيدر. قديمًا كانوا ينقلونه على ظهور الدواب، و يدرسونه (يستخرجون الحَبّ من السنبلة) بالمورج وهو آلةٌ قديمة تجرها الحمير أو الثيران، يؤدي مرورها فوق السنابل إلى خروج القمح و انفصاله عن القشرة التي تحميه، و من ثمّ كان يذرّ في الهواء لينفصل بشكل نهائي عن القش.

أما في طفولتي فكان المورج قد اختفى وحلّ مكانه الدارسة الميكانيكية التي تعمل بعد وصلها بالجرار الزراعي. و هي تلتهم السنابل من جهةٍ وتخرج الحبوب من جهة أخرى بينما ينفصل التبن ويجتمع بأكوام كبيرة قبل تعبئته علفًا للأبقار والماعز.
بكل الاحوال لم يكن أحدٌ في عائلتي من زارعي القمح ولا حاصديه بل كنت أراه معبّأً بأكياس الخيش و جاهزًا للسلق.
كانت جدتي أم قاسم رحمها الله، تعيش في الكويت منذ الستينات، وكان المال متوفرًا بين يديها لكنها ما كانت لترضى بشراء المؤونة الجاهزة، وهذه العادة لم تكن سائدة بين أكثر نساء ذلك الزمان، الا بين سكان بيروت، فكانت كل البيوت تعدّ مؤونتها و لم تكن في البلد معارض للمؤونة البلدية كما هو حالنا اليوم.
بعد شراء القمح واختيار ذي الحبّة الجيدة منه، كانت جدتي تذهب كل يوم قبل شروق الشمس في رحلة جمع وقود النار التي ستشتعل في الموقد المعدّ للسلق، وأذكر جيدًا أنني كنت أشاهد جبلًا من جبوب البلّان قرب الموقد، جمعتها جدتي بمفردها ونحن نيام. لقد كانت امرأةً من جيلٍ خارق القوى و نادرٍ بامتلاكه مهاراتٍ لا تحصى.
بعد جمع البلان وما تيسّر من جذوع أشجارٍ يابسة، كان على جدَّتي انتظار وصول الخلئينة (وعاء نحاسيّ ضخم يتسع لأكثر من مئة كيلوغرام) إلى الحارة.

فالعادة في القرية أن تحط الخلئينة رحالها في حارةٍ ما، فيسلق كل أهلها قمحهم بالدور على مبدأ الاعارة، قبل أن تنتقل إلى حارةٍ ثانية وهكذا.

وكان في عربصاليم خلئينتان واحدة كبيرة والثانية صغيرة، و كانتا تطوفان حارات البلدة دون أن يتقاضى أصحابهما أي بدلٍ مالي لقاء استخدامها، هكذا كانت العادات وما أجملها!
لجدّتي ستّ بنات، الاربعة الأكبر سنًّا منهن كنّ متزوجات، وبيت جدي مفتوحٌ وضيوفه كثر في الكويت كما في لبنان. كانت جدّتي تقوم بإعداد المؤونة الكاملة لها ولبناتها، فكانت تسلق قمحها بالخلئينة الكبيرة.
قبل الموعد بيوم، كانوا يشطفون السطوح التي ستستقبل القمح المسلوق، بكمياتٍ كبيرةٍ من الماء تزيل أي وجودٍ للتراب أو الحجارة الصغيرة أو الاوساخ كي لا يتلوث بها السميد وتصبح تنقيته في المرحلة التالية صعبةً. وكان يتم تببيض الوعاء النحاسيّ الذي يسمى اللَكَن عبر (دهنها بالقصدير) على يد المبيّض المتجوّل، مع بداية الموسم فتكون يوم السلق بيضاء لُجّيّة تسرّ الناظر إليها، و لم تكن الاوعية البلاستيكية قد انتشرت بعد.
عشية السلق، كان كل شيءٍ جاهزًا، الخلئينة وقد اعتلت الموقد بين صخرات “القلعة” قرب الطريق العام، و بجانبها جبل البلّان ونبريش ماء الشرب و الاوعية النحاسية. حتّى إذا ما طلع الفجر، سلك القمح طريقه إلى “التصويل” (تنظيفه من الاوساخ و التراب و الاحجار بواسطة المياه)، فكانت النسوة يشمّرن عن زنودهن، يقلّبنه في الأوعية، و كنا نحن الصغار ندسّ أيدينا بين الايدي، نطلب لهوًا ولعبًا، فنخرجها بعد فوزنا بقرصة أو ضربةٍ أو تعنيفٍ لفظي يبعدنا من المكان قبل أن نعود إليه بعد حين، كما كنا نحفر الاقنية ونقيم السدود على المياه الفائضة وسرعان ما كان يجرفها سيلٌ ينتج من إفراغ وعاء كبير.

كان القمح ينسكب من وعاءٍ إلى وعاء حتى يصبح ماؤه نظيفًا، أما الزؤان والشعير والحَبّ الخفيف فكان يطفو على وجه الماء ويقع في الارض، وبعد أيام تراه ينبت من جديدٍ، سنابل خضراء لكنها لا تثمر لأن البذرة ضعيفة وليس الزرع في أوانه، لكنها تشكل وجبة شهيّةً لدجاجات الحارة البلدية.
كان القمح لجدتي، لكن العاملات بالتصويل كنّ كل نساء الحيّ وجاراتها، هكذا كانت العادات، يساعد الجميع بعضهم بعضًا، وهذه واحدةٌ من أجمل العادات الآخذة بالانقراض.
أثناء غسل القمح، كانت جدتي توقد تحت الماء في الخلئينة، و كان إذا ما سخن، أفرِغ فيه القمح النظيف، و كان تناسب المياه مع كمية القمح ضروريًا كي لا يفور السميد متى ما نضج، وكذلك لا يجدر بالمياه أن تنقص فيحترق الحَبّ أو لا ينضج القسم الجاف منه.
و طوال ساعاتٍ يرتاح الجميع الا جدتي التي توقد تحت الخلئينة، حتى إذا ما غلت المياه، خففت كمية الحطب وحافظت على وتيرة نارٍ هادئة، ولما ينخفض مستوى المياه، كانت تجري فحصًا للقمح، بيدها تارةً (إذا التصق بيدها فيعني أنه نضج) وبالتذوق تارةً أخرى، و هذه المهمة الادقّ، لأن قلة النضوج تعطي سميدًا صلبًا و كثرته تعطي طحينًا.

وفي الاثناء، يأتي المزارعون يحملون عرانيس الذرة، يلقونها فوق جمر الموقد بعد تعريتها من ورقها، أما الشعيرات في رأس العرنوس (القُطُف) فكانت تتتحول إلى شوارب إصطناعيةً نلصقها فوق شفاهنا. و قبل نضوج القمح، كانت الكاسات والجاطات تمتلئ بالإلبي (قمح مسلوق مع سكّر)، و بعض الجيران يأتون بطناجر يحملونها إلى أطفالهم يأكلونها في سهراتهم مع بعض القلوبات من جوزٍ و لوزٍ وزبيب.

بعد الحكم بانتهاء النّزل (محتوى الخلئينة) كانت جدتي تطفئ النار وتسحب آخر أعواد الحطب خارجًا، و تعطي الاشارة للصبايا المجتمعات حول ركوة قهوة، و قطعة حلوى بيتية او كوز تين كان باكورة (ديفورة) جنى هذا العام.

كانت كل صبيّة تلفّ خرقةً أحضرتها معها لتصنع منها إكليلًا تضعه فوق رأسها يكون قاعدةً يستوي فوقها وعاء القمح (اللّكن).
بعد الاطمئنان إلى انتهاء عملية السلق بنجاح، كانت جدتي تغادر إلى السطح مع جَوجالِها المغسول ألف مرة بالمياه، تاركةً مهمة إفراغ الخلئينة في عهدة جدي الذي كان يستعمل مصفاةً نحاسيةً يغرفها في الخلئينة ليستخرج السميد ثم يبسمل ويسكبه في وعاءٍ مثقوب يجعله يفقد ماءه قبل أن يتولى رجلٌ آخر إفراغه في وعاءٍ تحمله الصبيّة ويساعدها في وضعه فوق رأسها فتمسكه بيديها أو بيدٍ واحدة بحسب مهارتها، وتمضي متهاديةً حتى تبلغ آخر درجةٍ في السّلّم حيث ينتظرها رجلٌ آخر يأخذ منها اللّكن ليفرغه أمام جدتي التي تتولى عملية الفلش بإتقانٍ شديد، والماهرات من النساء كنّ لا يمسكن اللكن أبدًا بل يوازنّه برؤوسهن فقط و هذا كان موضع افتخارهن و محطّ إعجاب الحضور.
هكذا كان السلق، من الحصاد حتى الفلش على السطح، ثم كان التجميع (لمّ السميد) بعد عدّة أيامٍ، قبل أن يأخذ طريقه إلى الطاولة الخشبية المستطيلة لتنقيته حبّةً حبّة من الزؤان والشعير والأحجار والباقية والدحيريجة وغيرها من الشوائب. وللتنقية طقوسٌ وحكايا لا يتسع لها المورد هنا. و بعد أيام من التنقية، كان السميد على موعدٍ مع الجرش في المجارش القديمة ذات الاحجار المنقوشة، ثم يعود إلى السطح ليشمّس من جديد و قد استحال برغلًا يحتاج إلى تعريب، و منه الناعم و الخشن و الخشينية و الصريصيرة (طحين القمح) والرويشة.
أما الناعم، فيجبل بالماء و يدعك مع اللحم المهروس بالمدقة الخشبية على البلاطة الرخامية و الكمونة لينتج الكبّة و الفراكة، و الخشن فينتهي في صحن مجدّرة حمراء أو بقلة لوبياء أو كاسة بليلة، و الخشينية فيُصنع منها الكشك بعد خلطها باللبن، و الصريصيرة فتؤكل مع السّكر و تدخل في صناعة العجين، أما الرويشة (قشر القمح) فتأخذ طريقها إلى المساند خلف ظهور المتسامرين الجالسين على طرّاحاتٍ إسفنجيةٍ رقيقةٍ على مسطباتِ الصيف تحت العرائش أو قرب مواقد الشتاء.

ما زالت بعض البيوت تسلق القمح، و بالخلئينة أيضًا، لكنّها بيوتٌ معيّنة، اتخذت الامر تجارةً ومورد رزقٍ يعيلها. ما زالت كل عائلات الريف والمدن تطلب المؤونة البلدية وتشتريها بأغلى الاثمان، لكن روح العمل الجَماعي والتعاون و الالفة تراجعت و كادت أن تنقرض، كما تغير الكثير من العادات والاساليب المتبعة في إعداد حبّة البرغل بعدما تم مكننتها إلى حدٍّ بعيد.
و في مكانٍ ما، تقبع الخلئينة الكبيرة في الظلام، مركونةً دون اهتمام، تسأل عن الناس الطيبين، عن سهرات الفلاحين ومزارعي الخير، عن جَدّات البرَكة والنفوس الطيّبة وعن الجيران والاهل والاحباب.
ما مررت بقومٍ يسلقون القمح الا ورأيت طيف جدّتي على صفحة الماء، و ما أنصتّ جيّدًا الا وسمعت صوتها، وما رأيت مسنّةً تهز غربالًا الا ورأيت من خلال ثقوبه يديها المباركتين.

“ستي اليوم بعيدة
و بلوّحلا بإيدي
مشتاق لأخبارا
يا ستي الختيارة”…