المنظمات غير الحكومية (NGO’S) في لبنان لا تبغي الربح ولكن بعضها يبغي السلطة

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

المنظمات غير الحكومية، التي هي أحد أعمدة المجتمع المدني، ليست بظاهرة جديدة على المجتمع اللبناني فهي موجودة وناشطة في مختلف المناطق اللبنانية منذ بدايات القرن الماضي. غير أن الحديث عن هذه المنظمات توسَع وتشعَب منذ انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وجاء الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وما خلَف من ضحايا ودمار ليعطي لهذه المنظمات المزيد من الاهتمام، نظراً للدور الذي لعبته في بلسمة الجراح وإعانة المنكوبين على تجاوز الآلام والمعاناة. وفي إطار تحضير الأحزاب والقوى السياسية للانتخابات النيابية التي ستجري في 15 أيار المقبل كثر الحديث عن تحالفات بين أحزاب وقوىً سياسية و”المجتمع المدني” وعن انخراط عدد من هذه المنظمات في العمل السياسي وتوجهها لترشيح عدد من أعضائها لهذه الانتخابات. في هذه المقالة سنحاول تعريف المجتمع المدني والإضاءة على ظروف نشأة المنظمات غير الحكومية عالمياً وعلى الأدوار التي قامت بها للوصول إلى الإجابة حول مشروعية انخراطها في العمل السياسي.

*المجتمع المدني*
المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات الاجتماعية الطوعية التي لا ترتبط بالجهاز الحكومي، أي الجمعيات والأحزاب والنقابات والنوادي… هذه التنظيمات هي وسائط بين المجتمع والسلطة، وتؤدي مهمات ثلاث: بلورة المصالح، الوساطة، الضغط.
وكلمة مدني تنطوي على قيم مدنية أو مواطنية وأبرز هذه القيم: الانتساب الحر، ممارسة ديموقراطية ترتكز على المساواة في الحقوق والواجبات، ومشاركة الأعضاء في نشاطات تعزز الديموقراطية والتنمية والسلام. وهناك معيار مزدوج ينبغي توافره في أي تنظيم ليشكل جزءاً من المجتمع المدني: الاستقلالية عن الجهاز الحكومي والعمل على تنمية قيم مدنية. فالصورة الأولى التي تتكون عن المجتمع المدني هي أنه ذلك الفضاء الحافظ للحرية في مواجهة السلطة.
من خلال ما سبق يمكن القول أنه لا يمكن إدراج القبائل والعشائر والتكتلات العائلية والطائفية والمذهبية في خانة المجتمع المدني، لأنها تنتمي إلى المجتمع الأهلي. ذلك لأن الانتساب إليها ليس حراً ولا يتم بإرادة ذاتية واعية، كما الحال عندما ينخرط إنسان في حزب أو جمعية. ورغم أن بعض هذه التشكيلات يمكن أن يؤدي مهاماً مدنية لجهة استقلاليتها بالنسبة إلى الجهاز الحكومي وممارسة أدوار من أجل التنمية والديمقراطية والعدالة والسلام فمن الصعب جداً تصنيفها ضمن المجتمع المدني.
هل باستطاعتنا التحدث عن مجتمع مدني في لبنان؟
تشكلت في لبنان منذ إنشائه عام 1920 تنظيمات وأحزاب متجاوزة في بناها حدود الروابط التقليدية باتجاه نسج علاقات جديدة بين الأفراد والجماعات على قاعدة المصالح المشتركة والأفكار الجديدة ونظم القيم الجامعة، مثل النقابات والأحزاب والمنظمات الشبابية الثقافية والاجتماعية والإنسانية ذات الخطاب والاستراتيجيا الوطنية العابرة للطوائف والمناطق. وظهرت هيئات وجمعيات وتنظيمات “مدنية” أخرى بالعشرات بل بالمئات والآلاف، وتطورت ودخلت في عملية تجاذب مع الدولة أو استفادت منها ( جمعيات زوجات السياسيين). وبقيت إلى جانب هذه الهيئات الحديثة، التنظيمات التقليدية التي ارتبطت بالتركيبة الاجتماعية التاريخية للبنان، كالعائلات والعشائر والقبائل والمذاهب والطوائف. وجاء النظام السياسي اللبناني ليؤمن تعايشاً بين التنظيمات التقليدية والحديثة، لأنه اعتمد الصيغة الطائفية للمشاركة السياسية (الديموقراطية التوافقية). فكان أن تقاطعت الصيغة المدنية مع الروابط الأهلية التقليدية إلى حد أنها خلقت مصالح بدأت تشكل حاجزاً في وجه تطور التنظيمات المدنية وتعيق تطور النظام الاجتماعي السياسي اللبناني باتجاه احترام أوسع لحقوق الإنسان ولتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

*المنظمات غير الحكومية*
من خلال ما سبق يمكن قراءة واقع المنظمات غير الحكومية. فهذه المنظمات يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر حين تأسست في العام 1832 الجمعية البريطانية لمحاربة العبودية. وجاءت هذه المبادرة كنتيجة لانتشار الليبرالية المتحررة وأفكارها. ولقد ترافق إنشاء هذه المنظمات مع عمل الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية خاصة في أفريقيا وآسيا في المجالين الصحي والتربوي.
لم يحصل إجماع بين الاختصاصيين والباحثين على تعريف واحد لما يسمى منظمة غير حكومية. فعلماء الاجتماع اعتبروها منظمات طوعية أو ثانوية ، فهي ثانوية بمعنى أن الانتماء لهذه المنظمات يأتي اختيارياً. والأعضاء لم يولدوا فيها كما في العائلة أو الطائفة أو الوطن. وهي طوعية بمعنى أن الأعضاء لا يتلقون أجراً مادياً لقاء انضمامهم إليها. أما علماء السياسة فهم يتكلمون عن هذه المنظمات كونها مجموعات ذات مصلحة خاصة تعمل كوسيط بين أفراد الشعب والحكومة. ويستعمل علماء الاقتصاد عبارة المنظمات التي لا تبغي الربح أو القطاع الذي لا يبغي الربح. وقد قدَم خبراء في البنك الدولي في أحد منشوراتهم تعريفاً لهذه المنظمات جاء فيه: “المنظمات غير الحكومية هي منظمات خاصة تقوم بنشاطات مختلفة لتخفيف معاناة الفقراء ودعم مصالحهم وحماية البيئة وتقديم خدمات اجتماعية أساسية والقيام بتنمية المجتمع المحلي. وتشمل العبارة كل منظمة لا تبغي الربح وتكون مستقلة عن الحكومة. وهي منظمات قائمة على مجموعة من القيم وتعتمد كلياً أو جزئياً على الهيئات الخيرية والأعمال الطوعية. ورغم أن المنظمات غير الحكومية قد أصبحت أكثر احترافاً فإن التضحية في سبيل الغير والتطوع يبقيان الخاصتين المميزتين للتعريف عنها”.
وتكمن أهمية المنظمات غير الحكومية في قدرتها على العمل على مستويات مختلفة في المجتمع، وإن لم تستطع إحداث تغيرات سريعة وجذرية. إلا أن تأثيرها التدريجي السلمي والمتعدد المستويات قد ساهم إيجاباً في ايجاد ثقافة مدنية جديدة، ومن ثم إلى تغيير شامل وبنَاء. وتساعد هذه المنظمات الأفراد على تنمية مهاراتهم السياسية وتجنَد وتدرَب القادة السياسيين وتشجع على المشاركة في الحياة العامة وتثقَف الشعب في مواضيع مختلفة. وتمثَل مع الصحافة أداة ضغط على الحكومة لتحافظ على شفافيتها ومسؤوليتها.

*الأزمات تستدعي المنظمات*
زاد في لبنان منذ سنوات انتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية المموّلة من صناديق معظمها أوروبية وأميركية تغذّيها أموال حكومات أو أفراد أو القطاع الخاص في هذه البلدان. وتقوم هذه المنظمات في أغلب الأحيان بخدمات مختلفة (صحية وتربوية وإنمائية) تملأ فيها الفراغات التي تتركها الدولة اللبنانية المتلكّئة أو العاجزة عن القيام بمسؤولياتها. وقد تفاقمت هذه الظاهرة إثر أزمة النزوح السوري وشهدت في السنتين الأخيرتين مراحل من التسارع في الانتشار، بخاصة في ظل الانهيار الاقتصادي وعقب انفجار مرفأ بيروت. فلم تعد الأزمة الإنسانية في لبنان تقتصر على اللاجئين والنازحين، بل أصبحت تطال كل السكان ( 70% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر) ، وتضع المتبرعين الدوليين أمام سابقة فريدة: أزمة إنسانية لم تتسبب فيها حرب أو كارثة طبيعية، بل فساد الطبقة السياسية الحاكمة.
ووفقاً للقانون اللبناني فإن المنظمة غير الحكومية هي مجموعة أفراد يصبَون معارفهم ومواردهم من أجل الخير العام من دون توخي الربح الشخصي. وتخضع المنظمات اللبنانية غير الحكومية لقانون 1909 العثماني الخاص بالجمعيات. ويعرِّف القانون الجمعيات بأنها مجموعة مؤلفة من عدة أفراد يوحّدون معلوماتهم وجهودهم بشكلٍ دائم ولا يكون هدفهم تقاسم الأرباح. فالقانون اللبناني ينص على أن في استطاعة أي مجموعة تضم أكثر من ثلاثة أشخاص، يعملون معًا في نشاطٍ معينٍ لا يتوخى الربح الشخصي، أن تتسجَّل كمنظمةٍ غير حكومية.

على ضوء ما سبق يمكن إبداء الملاحظات التالية:
1 – إن الأحزاب السياسية العابرة للطوائف والمناطق ولكل الانتماءات الأولية، والتي يمكن تصنيفها أو وضعها في خانة المجتمع المدني، عددها محدود جداً. هذه الأحزاب التي أنشئت وعملت منذ عقود على تنمية القيم المدنية لدى شرائح واسعة من اللبنانيين، وكان لها انجازات مهمة في هذا المجال، تعاني تراجعاً وضموراً بسبب الخلافات والانقسامات في صفوفها التي لطخت الصورة المشرقة والإيجابية التي بنيت عليها.
2 – إن النقابات العمالية التي يمكن تصنيفها ضمن المجتمع المدني قليلة جداً. هذه النقابات التي لعبت منذ عشرينات القرن الماضي دوراً فاعلاً ومؤثراً على الصعيد الوطني وفي العملية الديموقراطية بشكل عام، تراجع دورها أمام هجمة الأحزاب الطائفية على الحركة العمالية. وبدل أن يكون الاتحاد العمالي العام المنبر الأساسي لنشر الوعي والقيم المدنية بين العمال، تحوَل الى مساحة تختزن كل فساد الطبقة السياسية التي تستغل العمال وتشوه َنضالاتهم.
3 – إن الهيئات المهنية ( وليس النقابات كما يسمونها) التي تضم الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم كان يمكن أن تشكل عاملاً مهماً في بناء مجتمع مدني متماسك وفاعل، لولا خضوعها لحسابات طائفية ومناطقية، نتيجة ارتباط القسم الأكبر من أعضائها بأحزاب طائفية شكلت برموزها عناوين للنهب والسرقة والتفرقة والصفقات المشبوهة.
4 – لقد أفرزت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 مجموعات شبابية واعية صادقة ومؤمنة بضروة التغيير، وخاضت هذه المجموعات نضالات مهمة وكادت أن تحقق بعض الأنجازات. غير أن تشرذمها وعدم توحدها وغياب البرنامج الواضح لتحركاتها، وفقدان القيادة التي تغلَب المصلحة الوطنية على المصالح الخاصة، سمح لقوى السلطة وللأحزاب الطائفية الملوثة أيديها بعمليات النهب والسرقة، أن تجهض دورها. وتشكل حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” التي يقودها الوزير السابق شربل نحاس نموذجاً رائداً لهيئة تحمل قيم المجتمع المدني وتعمل فعلياً على تحقيقها. ومن الأكيد أن انتفاضة 17 تشرين الأول أفرزت حركات وتجمعات تحمل قيماً مدنية، غير أن أمام هذه المجموعات تحديات كثيرة أبرزها الشفافية المالية (مصادر التمويل وكيفية الإنفاق) والممارسة الديموقراطية والعمل الجدي لتجاوز الانتماءات الأولية العائلية والطائفية والمناطقية.
5 – إن الأحزاب والجمعيات والمنظمات الفاعلة والمؤثرة والمهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان هي أحزاب ومنظمات طائفية أو عائلية. هذه الأحزاب والمنظمات تختزن منذ إنشائها قيماً مناقضة لمفهوم المجتمع المدني، بما يحمل من رؤىً وآفاق يسعى إلى تحقيقها، وهي من أكثر المتضررين من تطور المجتمع اللبناني باتجاه قيام مجتمع مدني فاعل.
6 – بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 نبتت كالفطر جمعيات وهيئات بهدف المساعدة في رفع الأنقاض وبلسمة الجراح وتوزيع الإعانات التي بدأت تصل إلى لبنان من الجهات الدولية المختلفة ( سجلات وزارةُ الشؤون الاجتماعية في لبنان تحتوي على أكثر من 6000 منظّمة غير حكومية). هذه الهيئات التي تصنَف كمنظمات غير حكومية يقوم دورها الأساسي على الإغاثة والتنمية والتوعية، وهي من مكونات المجتمع المدني الأساسية. غير أن لغطاً كثيراً يدور حول عمل هذه الجمعيات : أولاً لجهة مصادر تمويلها والشفافية التي يجب أن تظهرها في عمليات الإنفاق، ثانياً لجهة انخراط بعضها في نشاطات سياسية والخوف من استعمال بعض الأموال التي تحصل عليها للتأثير في الانتخابات النيابية.
7 – من حق أي مجموعة من الأشخاص تلتقي على أفكار وبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، أن تتنظم في حزب أو تيار سياسي، وأن تخوض الانتخابات النيابية وأن تصل إلى السلطة وأن تحمل ما تشاء من الأسماء والأعلام والألوان. ولكن لا يحق لهذه المجموعة التسلل إلى الحياة السياسية والوطنية، تحت يافطة منظمات غير حكومية أو جمعيات إغاثية، والقيام بشراء الضمائر والذمم خدمة لأهداف ومخططات سياسية خارجية وللتأثير في نتائج الانتخابات النيابية.

في الخلاصة يخلط أغلب زعماء الطوائف والجماعات ورؤساء الأحزاب الطائفية وبعض المرشحين للانتخابات النيابية في خطابهم السياسي المتداول بين المفاهيم والعبارات التي لها تعريفاتها ومدلولاتها العلمية، فيتحول حزب طائفي أو عائلي أو ميليشياوي إلى أحد مكونات المجتمع المدني، كما يصنف نفسه، وتضيع المهام والأدوار عند بعض مؤسسي وأعضاء المنظمات غير الحكومية فيتحولون من منظمات لا تبغي الربح إلى منظمات تبغي المال والسلطة والنفوذ من خلال خضوعهم لتدخلات ووصايات خارجية وانخراطهم في دهاليز قانون انتخابي يشرَع لعبة قذرة عمادها الطائفية وسلطة المال، والعنصران لا يمتَان إلى المجتمع المدني وقيمه بأية صلة.

—————————

**باحث وأستاذ جامعي*