الطائف إتفاق لقيط مُرِّرَ في ليل .. فلماذا يستخف الرؤساء بعقولنا

 

عباس صالح 

لم يعد خافياً ان الأزمة السياسية اللبنانية هي أزمة بنيوية وجوهرية تتعلق بتركيبة هشة مررت على عجل وبتسرع ذات ليل حزين من ليالي الطائف العامرة في العام 1989 حيث تم “إرضاء” كل المشاركين بما ينبغي في حينه لإيقاف محنة الحروب الاهلية المتتالية التي مرت على لبنان واعادة فتح المناطق على بعضها بعدما مزقتها الحروب ودمرتها.

وسط تلك الاجواء، وفي ظل استعجال اللبنانيين لوضع حد لتلك المحن، نجح المتصيدون في جحيم الأزمات بتمرير صيغة لقيطة، مفبركة، مشوهة، غامضة، حمالة تفسيرات متباينة ومتناقضة، سموها اتفاق الطائف وتمكنوا من جمع تواقيع الموجودين عليها، بعد اقناعهم بأنها صيغة أفضل الممكن وانها صيغة مؤقتة ريثما يتم الاتفاق على تشكيل هيئة وطنية تتوافق على صياغة دستور عصري للبلاد يحاكي الدساتير والنظم وآليات الحكم في بلاد الناس.

من الواضح للجميع ان الكل أخفق حتى الان بمحاولة الخروج من ذلك الاتفاق اللقيط الذي يمكن وصفه بولَّادة الازمات، والذي لا يحمل في طيات اوراقه أي حل لأي مشكلة من المشاكل التي تعتري رجال الحكم مهما كانت جزئية، ومن هنا يمكن فهم الأزمات المستجدة والمتوالدة في كل استحقاق دستوري، والتي كان آخرها عملية تأليف الحكومة برمتها اولاً وقد تم تجاوز ابرز عقدها بطريقة التلفيق واللفلفة التي باتت آلية أساسية في المعالجات المعهودة، حتى وصلت الى ما يتم تسميته اصطلاحاً بأزمة توزير النواب السنة من خارج كتلة الرئيس سعد الحريري.

واذا كان من الواضح أن العُقَد لن تتوقف عند هذه العقدة فإن ما أثير حول هذا النقطة بالذات خلال اليومين الماضيين يدعو فعلاً الى السؤال الكبير أين هو العقل او حتى المنطق في المقاربات التي يتم على أساسها تشكيل الحكومة العتيدة.

وعندما يتناغم الرئيس ميشال عون مع الحريري في مسألة رفض تمثيل السُّنة المستقلين في الحكومة، وهو الذي اوقف الحكومة لحوالي ستة اشهر متمسكاً بالمعايير النسبية المطابقة لنسبة المجلس النيابي الجديد، علماً ان عون لم يلتزم بها أصلاً ولا عمل بمقتضياتها، بل ناور بها كما غيره، ليقفز فوقها ويحصل مع تياره على ما يتجاوز الحصص المتاحة لهما حتى باعتماد النسبية، واستحوذ على حصص اكبر من حجمه النيابي وهي حصص تتيح له الامساك بمقدرات الوطن والحكم، والتحكم بمفاصل القرار في كل موارد الدولة، وذلك من خلال ذهنية “التشبيح” نفسها التي سادت منذ عقود في ادارة الحكم في لبنان.

وعقلية “التشبيح” هذه هي التي جعلت التيار الوطني الحر الذي حصل مع المتحالفين معه في الانتخابات على حوالي ٢٧ نائبا ينال ١١ وزيراً، فيما الثنائي الشيعي الذي حصد الحصة الشيعية الكاملة وهي ٢٨ نائباً، لم ينل سوى ال ٦ وزراء المخصصين للطائفة.. في حين ان التيار الحر والقوات حصلا على غالبية الوزراء المحسوبين عليهم من المذاهب والطوائف الاخرى!

المنطق “التشبيحي” نفسه أعطى حزب القوات اللبنانية الذي اوصل مع المتحالفين معه ١٥ نائبا الى البرلمان يحصل على ٤ وزراء موزعين على مذاهب شتى، وهو المنطق نفسه الذي يحرم عشرة نواب سنة وصلوا الى الندوة البرلمانية متفرقين من اي تمثيل وزاري ، فيما يعطي كتلة الحريري المؤلفة من ١٧ نائبا ستة وزراء!  فأي نسبية مشوهة هذه التي يدعونها؟!

سخافة ما بعدها سخافة، واستهزاء بعقول اللبنانيين والعالم من ورائهم ما يجري على هذا المستوى من عمليات بلف مفضوحة، ولا سيما حين يتسلح الرئيس المكلف بالتشكيل، بكلام لرئيس الجمهورية يقول فيه أن “بعض العراقيل غير مبرّرة، وأن كل دقيقة في تأخير تشكيل الحكومة تكلّفنا كثيراً”، اذ يبدو ان هذا الكلام من رئاسة الجمهورية جعل الحريري يتشدد اكثر ويبلغ محاوريه بأنه” لا يرفض التنازل من حصته وحسب لسنة ٨ آذار بل انه يرفض توزير اي ممثل عنهم ضمن أي حصة وتحت أي ظرف من الظروف”! .

كان الاحرى بالرئيس عون ان يفكر بهذا المنطق قبل ستة اشهر، بعيد انتخاب المجلس النيابي، وان يقلع عن عقلية الاستحواذ والاستئثار بالسلطات في حينه ويقبل بتشكيل الحكومة على أسس العقل والمنطق ومشاركة كل اطياف المجتمع اللبناني، ويوافق مع الحريري على أي تشكيلة يقدمها لو كان فعلا يعتقد ان تأخير التشكيل مكلف.

في المحصلة ، الواضح من كل ما ظهر حتى الان من خلال الممارسة والتطبيق هو ان اتفاق الطائف عبارة عن  شماعة تعلق عليها كل ممارسات “التشبيح” والتجاوز والاستئثار والضحك على ذقون اللبنانيين..وبات من الملح والضروري ابتكار آليات حكم تمثل العدالة الحقيقية في تمثيل الشرائح الاجتماعية … وبعيداً عن الاستخفاف بعقولنا.