الروائح .. علاقتها وطيدة بالذاكرة والذكريات

 

 

“ الدنيا نيوز” – دانيا يوسف*

إن ما يقوي تأثير الروائح هو علاقتها الخاصة بالذاكرة، وذلك عندما تسمح لنا في لحظة واحدة بالانتقال عبر المكان والزمان إلى أماكن كنا قد ابتعدنا عنها لفترات طويلة. وهنا لا بد من الحديث عن “مادلين بروست” التي أصبحت رمزاً لعلاقة الروائح بذكريات الماضي، وهي التي تحدث عنها الكاتب الفرنسي مارسل بروست في روايته “في البحث عن الزمن المفقود”، حيث يروي كيف أنه عندما كان مستلقياً على سريره في أحد الفنادق ينتظر وجبة الفطور وقُدِّمت له كعكة مادلين (وهي الكعكة الفرنسية الشهيرة) أرجعته رائحتها إلى بيت عمته الرمادي القديم في مدينة كومبراي الفرنسية، حيث نشأ، وتذكر عندما كان يذهب لتحيتها في غرفتها صباح يوم الأحد، وكانت تقدِّم له كعكة المادلين بعد أن تغمسها في شراب الزيزفون. وهكذا، وبأسلوب أدبي أنيق، كان بروست أول من أشار إلى ظاهرة “الذاكرة اللاإرادية” التي تفسر قدرة التجارب الحسية، لا سيما حاسة الشم العميقة والمعقَّدة، على أن تعيدنا فجأة إلى ذكريات بعيدة بقيت عالقة في أذهاننا على الرغم من مرور السنين.
في كتابها “التاريخ الطبيعي للحواس” تتحدث الكاتبة وعالِمة الطبيعة ديان أكرمان عن تعقيدات حاسة الشم وصعوبة تحديدها، وعن عدم كفاية اللغة في ما يتعلق بوصف الروائح المختلفة. فنحن لا نملك كلمات كافية لوصف الروائح بشكل محدَّد، وعادة ما نعود إلى الاستعارات المرتبطة بالحواس الأخرى لنوضِّح كيف تجعلنا روائح معيَّنة نشعر، كأن تكون الرائحة، على سبيل المثال،”طيّبة” أو “منفّرة”، أو نميل إلى مقارنة الروائح بالروائح الأخرى عندما نقول إن رائحة معينة هي مثل “المروج الصيفية” أو هي”كالعفن”، أو أن نشير إلى الروائح باسم الأشياء التي تنبعث منها، مثل رائحة “شجر الأرز” أو “جوز الهند” أو “الخبز الطازج”.
ولكن أكرمان تقول إنه على الرغم من ضعف الروابط الفسيولوجية بين الرائحة ومراكز اللغة في الدماغ، إلا أن للروائح القدرة على ترسيخ نفسها في نظام الذاكرة طويلة المدى في الدماغ البشري. إذ يُعتقد أن %75 من المشاعر التي نولدها يومياً تتأثر بالرائحة. ولهذا السبب، فإن احتمالية تذكر شيء نشمّه أكثر من شيء نراه أو نسمعه أو حتى نلمسه هي أكبر بنحو 100 مرّة.
كانت اليابان أول دولة اتخذت واحداً من أكثر المواقف تقدُّماً تجاه حاسة الشم وعلاقتها بالمكان من خلال الإعلان عن مشروع باسم “مئة موقع من الروائح الطيبة” في عام 2001م، وتضمَّن هذا المشروع مواقع طبيعية وثقافية من بينها الينابيع الساخنة الكبريتية وحدائق أزهار الخزامى ونبات الويستريا والروائح المنبعثة من المكتبات القديمة ورائحة الصمغ المميزة حول منازل الحِرَفيين في مدينة كورياما.
وفي عام 2004م، استطاع العلماء تحديد الروابط بين الروائح والذاكرة من الناحية العلمية، وذلك من خلال بحث قامت به الدكتورة ليندا باك والدكتور ريتشارد أكسل ومُنحا عليه جائزة نوبل لعام 2004م في علم وظائف الأعضاء والطب. الأمر الذي أزال كثيراً من الغموض عن حاسة الشم ونظامها المعقد، عندما استطاعا اكتشاف وجود ما يقرب من 1000 جين حاسة شم في أجسامنا (أي ما يصل إلى نسبة %3 من الجينوم البشري). وقدّر باك وأكسيل متوسط قدرة الإنسان على التعرف على حوالي 10,000 رائحة مختلفة وتذكّرها لاحقاً.
التجاهل السابق للروائح في المساحات الحضرية
على الرغم من أهمية الروائح وعلاقتها بالمدن من خلال قدرتها على إضفاء الشخصية وتوفير الإحساس بالمكان وتوليد الذكريات، تم التغاضي عنها لفترة طويلة في المناقشات المتعلِّقة في التصميم الحضري. وتؤكد هذا الأمر الدكتورة فيكتوريا هينشو، المحاضرة في التصميم والتخطيط الحضري بجامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة، في كتابها: “الروائح الحضرية: فهم وتصميم بيئات الروائح في المدينة”، عندما تقول: “مع الأسف، تم تجاهل الرائحة في تصميم المدن وإدارتها لفترة طويلة على الرغم من دورها المهم للغاية في تجاربنا مع المدن والطرق التي ندرك فيها الأمكنة”.
أما السبب في هذا التغاضي فيعود إلى أمرين اثنين: أولهما، أنه على مرّ التاريخ كانت المدن أماكن قذرة تنبعث منها روائح كريهة وغير صحية، حيث كان يمتزج في شوارعها روث الحيوانات والمجارير والنفايات والملوِّثات الصناعية فتُفسد هواءها وتتسبَّب بالأمراض المختلفة، حتى إنه كان يسود الاعتقاد، كما عبَّر عنه العالِم والمصلح الاجتماعي البريطاني في القرن التاسع عشر إدوين تشادويك، بالقول: “إن كل رائحة هي مرض”. ومن هنا انطلقت في القرن نفسه حملات النظافة التي عملت على تحسين البُنى التحتية للصرف الصحي وتنظيف المدن وتعقيمها. ومنذ ذلك الحين، حتى الروائح التي لم تكن تُعد بالضرورة كريهة تم إعطاؤها دلالات سلبية وتمت معالجتها من أجل إزالتها. وثانيهما، أنه منذ ولادة الفلسفة في اليونان القديمة، أي منذ حوالي 2500 عام، سادت نظرة هرمية للحواس، حيث اعتبر البصر والسمع من أرقى الحواس لأنهما كانا مرتبطين بالعقل والروح، ولأن هناك إمكانية تحديدهما كمياً بشكل موضوعي يسمح بتفسير الواقع بطريقة عقلانية. أما حواس اللمس والشم والتذوق فتم ربطها بغرائزنا البدائية واحتياجاتنا الفسيولوجية، وبالتالي اعتُبِرت حواسَ أدنى تولد أحاسيس ذاتية لا قيمة أساسية لها. من جانب آخر، ازدادت أهمية ما يسمى بـ “العلامة التجارية للرائحة” التي تشدِّد على تأثير حاسة الشم في المكاتب وأكشاك المعارض التجارية ومحلات البيع بالتجزئة والمنتجات نفسها، انطلاقاً من قدرة الروائح على تكوين روابط عاطفية فورية وقوية مع العملاء. وذلك لأن الروائح المميزة يمكنها أن تثير ذكرى المنتجات أو الأحداث المرتبطة بها لدى الزبائن قد تعود إلى سنوات بعيدة مضت أو يمكنها أن تثير مشاعر إيجابية قد تدفع الزبائن على الإقبال على المنتج او السلعة المعينة.
ومن الناحية السياحية، وللتأكيد على أهمية الوعي بالروائح وارتباطها بالمكان، وضعت مصممة الغرافيك والمصوِّرة كيت ماكلين خرائط رائحة للمدن المختلفة على الصعيد العالمي. ووفقاً لهذه الخرائط راحت تنظم جولات لاستنشاق الروائح واستكشاف المدن من خلال روائحها. ولا تقتصر هذه الخرائط على الروائح الموزعة جغرافياً، بل يمكنها أن تشمل أيضاً التغييرات بمرور الوقت ومقارنة روائح الصباح مع روائح ما بعد الظهر أو المساء في الشوارع المختلفة. كما تأخذ ماكلين بعين الاعتبار روائح الماضي كما فعلت عندما وضعت خريطة رائحة لمدينة لانكشاير البريطانية، وكل الروائح التي كانت تنبعث من المعامل الموجودة فيها كونها كانت مدينة صناعية أساسية.
وهكذا لا تقتصر أهمية إدخال الروائح في تصميم المدن وإدارتها وإدراكها في تخصصات التصميم الحضري، ولكن آثارها تمتد عبر تخصصات أخرى مثل الصحة العامة وتسويق المدن والسياحة. وما قد يكون أهم من ذلك كله، هو أن أصداء الروائح العاطفية هي العنصر الأهم الذي يبقى في أعماقنا ونحمله في دواخلنا عندما نسير في شوارع أي مدينة من مدن العالم.

—————————————

* رئيسة القسم الثقافي في “الدنيا نيوز”