الرهن الحيازي ..!

بِقلم العَميد مُنذر الأيوبي*

ما بين مد و جزر استغرق أشهرآ طويلة – منذ تاريخ التوقيع 11.04.2017 – لديبلوماسية ساعية بين واشنطن و أنقره سواء تهديدآ أو تَرغيبَآ بدأ أسطول طائرات “ألأنطونوف ” Antonov.IN-124 الضخمة في السلاح الجو/فضائي ألروسي فجر 21 ألجاري بألهبوط على مدارج قاعدة “مورتيد” Murted-AB شمال العاصمة التركية انقرة ناقلآ الدفعة الاولى من منظومة صواريخ S-400 Triumph الروسية للدفاع الجوي و ذلك وفق الجدول المعتمد لدى مدير مصانع Fakel-Almaz التابعة للوكالة الاتحادية لصناعة المعدات العسكرية و الفضائية UA-IMS “سيرغي شيمزوف” Sergey Chemzov ، على ان تليها شحنات لاحقة جوآ مع فريق العسكريين الأتراك الذين خضعوا للتدريب على استخدام و صيانة هذه البطاريات الصاروخية الدفاعية أما ألأخيرة فستنقل بحرآ آخر الشهر القادم محملة 120 صاروخآ
من نفس النوع و الطراز مع الإشارة الى انه سيتم ارسال دفعة ثانية من التقنيين الأتراك 80 عسكريآ لمتابعة دورات تدريب مماثلة ..
في مختصر المواصفات الحربية التقنية فإن هذا النظام دخل الخدمة في القوات المسلحة الروسية
عام 2007 و تطور على مراحل يتعامل مع الأهداف الطائرة على المدى الطويل 400 km المتوسط 250 km و القصير 40 km و يعتبر اليوم الأفضل في العالم ..

ليست العلاقات الإستراتيجية بين الدول و الأحلاف سواء العسكرية “إسرائيل- اليونان- قبرص” مؤخرآ على سبيل المثال ، أو الاقتصادية “منطقة أليورو” مجرد كباش حول صَفقة تسليح أو هيمنة على أسواق ، تاليآ فإن صَفقة أل S-400 بين روسيا الاتحادية و تركيا لا تمت الى بساطة قبول طرفين عملية بيع و شراء بل هي على سبيل ألتشبيه من نوع “الرهن الحيازي” على مستوى دولي بفوائد مرتفعة ، قد يوصل الى تفليسة تفرض تنفيذ الرهن المبطن و هو أصلآ يكون قيد التنفيذ منذ التوقيع في إلتزام مستقبلي لا إحتمالي إذ نادرآ ما يسدد الدين في حينه ..!

كما أن البطاقة الحمراء التي ترفعها وزارة الدفاع الاميركية – Pentagon و حلف شمال الأطلسي
NATO بوجه الصفقة ليست على خلفية تقنية بحتة مضمونها إحتمال تعريض المقاتلات الاميركية الشبح F-35 للخطر و التي تشارك انقرة في تصنيعها و بالتالي شراؤها ، لكنها أيضآ خشية تملص تدريجي تركي من التزام “رهن” في حلف عسكري قد يسبب خسارة نُفوذ إقليمي في ظل أزمة سياسية عالية التوتر من أحد تداعياته الاستراتيجية إنزلاق تركيا أردوغان-الإخوانية من كتف الأطلسي الى الحضن الروسي و التكتية كالخروج الاميركي من قاعدة “أنجرليك” Incirlik AB العسكرية حيث تتمركز على ضفاف موسكو قوة جوية اميركية حديثة مع طائرات Boeing -I 3 المخصصة للتجسس ، الإنذار المبكر و التحكم .! من نافِل ألقول ان الأمور لم تصل الى هذا الحد ففي الديون الكثير من عمليات المصالحة و الجدولة المالية و في السياسة التسويات غالبآ ما تكون سيدة المواقف ان لم نقل في معظمها ..!

في سياق مُتَصل ، و على ألنسق “ألبراغماتي” Pragmatic ألسياسي ألمتذبذب و ألمعتاد من الرئيس الاميركي دونالد ترامب ! هددت واشنطن بفرض عقوبات صارمة على تركيا وفقآ للقانون ألفدرالي : مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات – CAATSA الذي وقعه الرئيس ترامب بتاريخ 02.08.2017
و اخضع في حينه و بموجبه كل من : روسيا، ايران، كوريا الشمالية للعقوبات الاقتصادية كل بدرجات مختلفة عن الآخر .. أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد اعتبر الحصول على منظومة أل S-400 أمر مرتبط بسيادة و إستقلالية القرار التركي الاستراتيجي مؤكدآ : “الصفقة هامة و ضرورية ، حيازتها سيكون تأثيره ايجابيآ على الحلف الأطلسي ، نحن لا نستعد للحرب”.

ضمن نفس نظرية “ألرهن الحيازي” ، تسلمت القيادة الجوية لكوريا الجنوبية من الولايات المتحدة الاميركية 4 مقاتلات من طراز F 35-A الشبح – من اصل صَفقة شراء سيول 40 منها هادفة بذلك الى تحقيق تفوق عسكري نوعي بوجه كوريا الشمالية يفتح كوة توازن استراتيجي في جدار مواجهة عسكرية محتملة ، أما رد “بيونغ يانغ” فكان اعلان المتحدث باسم وزارة الخارجية : انه في هذه الحالة ليس لديها خيار آخر سوى تطوير و اختبار أسلحة خاصة تكفل تدميرآ شاملآ لأسلحة “سيول” ألفتاكة ، في ألمقابل و ضمن تعاطف Sympathy أو تجانس بين شخصيتي ألرئيس الكوري الشمالي Kim Jong-un و الاميركي Trump صرح الأخير : انه على استعداد لتقديم بعض التنازلات إذا جمدت كوريا الشمالية برنامجها لتطوير أسلحة الدمار الشامل بألكامل ..!

بألتماثل ، و في حمأة حرب اقتصادية تجارية ناشبة بين الصين و الولايات المتحدة الاميركية أبرمت ألأخيرة مع “تايوان” صَفقة “رهن سياسي” بيع أسلحة متنوعة بقيمة 2.2 مليار دولار و ذلك إستنادآ إلى وكالة التعاون الدفاعي و الأمني التابعة للبنتاغون مما أثار غضب بكين رافضة تغيير واشنطن سياسة “الصين واحدة” التي تنتهجها منذ زمن طويل 1979 ..!

بألعودة الى أنقرة ، ما هي التداعيات و الارتدادات الاستراتيجية و ألجيوسياسية للصفقة ..؟
أوردت وكالة “سبوتنيك نيوز” Sputnik نقلآ عن مقال ذو أهمية في صحيفة Focus News للباحث السياسي الألماني “توماس إيغر” Thomas Eicher ما يمكن تلخيصه بعبارة واحدة : ان الخلاف التركي- الاميركي حول هذه الصفقة قد يؤدي الى انسحاب انقرة من حلف ألناتو و هذا انتصار كبير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.!
تاليآ هل يشكل إلغاء صَفقة مقاتلات F-35 ردآ أميركيآ حاسمآ على تركيا و حافزآ دون إحراج للأخيرة بُغيَة تحقيق إستدارة نصف دائرية نحو شراء مقاتلة SU-22 أم تغريها موسكو اكثر بتسليمها ألجيل الخامس من المقاتلات الروسية ألمحاطة بسرية مطلقة و المتفوقة Zirkon .؟ بما يسمح لسلاح الجو التركي بألهيمنة على أجواء الإقليم بالكامل و هذا امر مستبعد من الخطورة بمكان ..!

توازيآ و في مؤشر ذو أهمية ، رغم ما يعانيه الاقتصاد التركي من انكماش و تقلص تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إضافة الى ارتفاع معدل الفوائد على الليرة إلى اكثر من 24 % فقد بلغت قيمة صفقة صواريخ S-400 ملياري دولار اميركي بما يتجاوز أولآ كامل الميزانية العسكرية للدولة التركية و دون ألأخذ بعين الاعتبار ثانيآ أية محاذير مالية أو نقدية قد تؤذي الخزينة أو تنعكس سلبآ في نتائجها كخفض مؤسسة Fitch Ratings للتصنيف المالي مؤخرآ درجة الدين الائتماني الى( BB -) مع نظرة مستقبلية سلبية ..
مما لا شك فيه أن الرئيس التركي أردوغان يحاول فرض تفوق استراتيجي يتساوى فيه الى حد ما مع كل من إسرائيل و إيران على صعيد الإقليم و هذا أمر لا يمانع فيه الرئيس بوتين ، كما يعتقد ان بإستطاعته اللعب على تناقضات جيوسياسية روسية – اميركية “مخطئآ” تسمح له بتحقيق أهدافه في العديد من المسارات العسكرية “إدلب ، ألأكراد ، ليبيا”إلخ .. ، الاقتصادية “نفط الشمال القبرصي ، آلسيل ألشمالي ، طريق آلحرير” إلخ .. ، ألسياسي حضور تركي فاعل على كافة المستويات و القضايا …


إذن على الصعيد ألتركي لا تقريش هام لحيازة بطاريات صواريخ S-400 خارج المظلة الروسية ، أما موسكو فألمكاسب ألجيو إستراتيجية هامة و ستتصاعد مع ألوقت بِدءآ بإثبات تفوق و هيمنة روسيا على سوق السلاح العالمي و ليس إنتهاء بالتوسع الجيو سياسي على مستوى أوراسيا و ألأقليم الشرق أوسطي ..

خِتامَآ ،، بين تحالف هذا و تخاصم مع ذاك ، صراع هنا و حرب هنالك ، تبقى البشرية تتقلب على جمر خير عميم و شر مستطير طالما ألكَوكَب دون شك و على يقين أنه لن يتوقف عن ألدوران و مساره لم ينحرف …

*عميد ، كاتب و باحث.