الرئيس بوتين بين القناعة الايديولوجية و”جنون الارتياب”.. !

بقلم العميد منذر الايوبي*

شريط حدودي بطول 1300 km يفصل بين الاتحاد الروسي ودولة فنلندا، فرض على الاخيرة لعنة الجغرافيا، اذ انها على تماس مباشر مع خط التوتر العالي القابل للقطع في كل حين ان هبت رياح ساخنة ، ما دفع الحكومة الفنلندية اثر العملية العسكرية الروسية على اوكرانيا الى التخلي عن سياسة الحياد الايجابي، وطلب انضمامها الى حلف شمال الاطلسي NATO، على اعتبار اضافي قائم على خلفية تاريخية مريرة حافلة بالعداء بينهما، اذ انها مدرجة دوما على لائحة الاهداف الاستراتيجية لروسيا وامنها القومي..!
تاليآ؛ تشكل فنلندا من الوجهة الجيو استراتيجية خطورة اكبر من اوكرانيا على الاتحاد الروسي، كما ان حسم موقفها بألإنضواء تحت راية “الناتو” سيمنح موسكو حوافز المواجهة ورد التحدي او على الاقل ولوج مرحلة الحرب الباردة
لا سيما في ظل علاقاتها المميزة مع الغرب..! كما قد تساهم هذه الخطوة بفتح جبهة اوروبا الشمالية مع ما يترتب على ذلك من انعكاسات وتداعيات تتعلق بالمدى الحيوي المتغير وصراع النفوذ..!
من جهة اخرى، بالرغم من كل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفائها على روسيا، فقد بقيت الى حد ما ضمن خانة الاستيعاب نتيجة قدراتها الاقتصادية وعلاقاتها مع الصين ودول اخرى كايران والهند وسواهما.! في السياق لا يزال الرئيس فلاديمير بوتين يعتمد استراتيجية القضم التدريجي عسكريآ للمدن والاراضي الاوكرانية؛ كما تواظب واشنطن على امداد اوكرانيا بالسلاح الدفاعي ضمن هامش عدم تهديد الاراضي الروسية، وفق ما صرح الرئيس جو بايدن اول من امس: “لن نرسل لاوكرانيا انظمة صواريخ بعيدة المدى تطال الداخل الروسي” رغم مطالب كييف المتكررة للحصول على هذه الانظمة.. في حين اعتبر نائب رئيس مجلس الامن الروسي ديمتري ميدفيديف قرار الرئيس الاميركي بالعقلاني مضيفآ ” في حال الهجوم على مدننا، ستنفذ القوات الروسية تهديدها بضرب مراكز القرار الاجرامي”..!

على صعيد آخر؛ لا يزال الرئيس بوتين بما أوتيَ من برودة اعصاب يواجه الغرب الاطلسي لاعبآ على الحافة الجيو عسكرية في مسارح الصراع الاستراتيجية المتعددة، سواء في اوروبا او الشرق الاوسط واميركا اللاتينية، متكئآ على ترسانة عسكرية هائلة ومتطورة من جهة، وعلى ضعف اعدائه او تفاوت مصالحهم الاقتصادية واهدافهم الإستراتيجية، اضافة الى قناعة هؤلاء ان الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع روسيا ستفضي الى حرب عالمية ثالثة..!

توازيآ؛ منذ شهر آذار الماضي والاعلام الغربي يوجه سهامه الى الرئيس الروسي بوتين عبر اتهامه بارتكاب جرائم “الابادة الجماعية”، كما نيته استخدام اسلحة بيولوجية وكيماوية في اوكرانيا؛ في حينه اعتبر الرئيس بايدن ان نظيره الروسي في “مأزق صعب وانه قد يلجأ الى تكتيكات اكثر شدة”. بالمقابل يعمل الحلف الاطلسي على تعزيز وجوده عبر تقديم الدعم العسكري لدول اوروبا الشرقية من منطلق لجم التمدد الروسي لاحقآ..!

في وقف العملية العسكرية على اوكرانيا لا مؤشرات على انتهائها في المدى المنظور، كما ان المدد العسكري الغربي والاطلسي المتواصل وان كان يشكل دعما للقدرات الدفاعية، الا انه في المنظور السياسي سيقوي موقف كييف التفاوضي عندما تحين اللحظة المناسبة..!

في لحظات القلق الوجودي التي تنتاب دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، لا سيما دول البلطيق الساعية لعضوية الاتحاد الاوروبي او الانضمام لحلف الناتو؛ برز مؤخرا وكان لافتآ او مفاجئآ تركيز محللين غربيين على دراسة سلوك الرئيس الروسي والخروج بخلاصة في مضمونها “انه زعيم سلطوي يعاني من الهذيان وجنون الارتياب”، مستندة الى ان علاقته مع قادة افرع القوات المسلحة ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية “سيرغي ناريكين” ليست على ما يرام، كما ان ملاحظاته تأخذ طابع السخرية في كثير من الاحيان..!

في نفس السياق واثر خطاب جيو سياسي مطول وجهه بوتين للأمة، علق وزير الدولة الفرنسي للشؤون الاوروبية “كليمون بون” على مضمونه بالقول: احتوى تحليلآ شديد العنف يعكس جنون العظمة قائم على الكثير من الاكاذيب التاريخية.. بالتزامن اعتبرت المستشارة الالمانية السابقة انجيلا ميركل ان الرئيس بوتين “فقد الاتصال بالواقع.. انه يعيش في عالم آخر”..!
ما يمكن استخلاصه؛ انه بين الحقيقة والدعاية المضللة خيط رفيع، فالمعادلة مزدوجة وعامل الوقت كفيل بترجيح كفة على اخرى؛ اذ من الصعوبة بمكان فصل براغماتية الرئيس بوتين وشخصيته الحازمة عن قناعته الايديولوجية من جهة ، في حين ان االبروباغندا الغربية المتوائمة مع اتهامات المعارضين للنظام ابرزهم “اليكسي نافاليني” الذي نعته بالجنون بعد توقيفه اثر عودته من المانيا حيث عولج من محاولة تسميمه، وهو حاليآ نزيل سجن (بيتالك) الكائن وسط موسكو المخصص للسجناء السياسيين، تساهم بشكل او بآخر بإضفاء نوع من الارتياب والشك سلبآ ام ايجابآ حول ما يتداول..!

أخيرآ؛ معلومات صحفية تشير الى ان الرئيس الروسي يعاني من سرطان الدم وقد خضع لجراحة في الظهر قبل وقت قصير من اطلاقه العملية العسكرية على اوكرانيا. في حين سارع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى نفي هذه المعلومات معلقآ: “يمكنكم مشاهدته على الشاشات وقراءة خطاباته، اترك الامر لضمير هؤلاء الذين ينشرون هذه الشائعات”…
السؤال هل يكفي الضمير لدحض الشائعات..؟

—————————

بيروت في 02.06.2022