الشرطة اللبنانية هي من تصدت للكوماندوس الأسرائيلي في فردان خلال عملية العام 1973

 

بقلم : العميد أنور يحيى*

حوالى الثانية فجر العاشر من نيسان 1973، إتصل رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام بقائد الجيش اللبناني العماد إسكندر غانم، يسأله عن صحة معلومات قدمها اليه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ، تفيد باغتيال ثلاثة من كبار قادة الثورة الفلسطينية المقيمين في شارع فردان: كمال ناصر ، كمال عدوان وأبو يوسف النجار منذ قليل. وانه ما تزال تسمع أصوات عيارات نارية متفرقة في العاصمة.

تبين أن لا علم لقائد الجيش بحقيقة ما حصل وطلب بعض الوقت للتحقق والأفادة. وبعد 15 دقيقة أفاده بأن عملية كومندوس معادية أستهدفت قادة فلسطينيين في شارع فردان، وان الجيش يتابع خفايا الواقعة.!

شن القائد الفلسطيني هجوما ضد الجيش اللبناني وأتهمه بالتقصير بحماية القادة الثلاثة، وطلب رئيس الحكومة من رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجيه، إقالة قائد الجيش فورا، للتقصير بالتصدي للكومندوس الأسرائيلي، وعندما لم يوافق على الأقالة، استقال سلام من رئاسة الحكومة.!!!

بالعودة الى أرشيف الشرطة والبيانات التي صدرت عن الجيش في حينه ، والاستماع الى شهادة أحد عناصر الفرقة 16، الذي شارك بعملية التصدي للقوة العدوة فجر ذلك العاشر من نيسان 1973، تبين تسلسل الوقائع لعملية الكومندس العدوة التي قادها الرائد أيهودا باراك، رئيس الحكومة الأسرائيلية لاحقا، كالأتي:

أولا:التحضير للعملية

يوم 6/4/1973، وصل الى مطار بيروت ستة سياح من الجنسيات: الألمانية، الأنكليزية، والبلجيكية، ونزلوا في 3 فنادق متقاربة جنوبي العاصمة، وأستاجروا 6 سيارات سياحية من ثلاث وكالات مختلفة!! ، بقصد التعرف الى الأماكن السياحية، وقدموا جوازات سفرهم القانونية الى أدارة الفنادق الثلاثة.

ثانيا:المباشرة بالعملية

حوالي الساعة الواحدة وخمس دقائق من فجر العاشر من نيسان، سمعت أصوات طلقات نارية كثيرة في شارع فردان الذي كانت تقطنه قيادات فلسطينية تحرسها مجموعات من المنظمات المتعددة بظل أتفاق القاهرة 1969،المعقود بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية والذي أعطى المنظمة حق حمل السلاح أينما كان بهدف تحرير فلسطين المغتصبة 1948، معالجة نتائج نكسة حزيران 1967!!.

أفيدت غرفة عمليات شرطة بيروت بذلك ، فوجهت دوريتين الى شارع فردان، وظلت أصوات العيارات الناريه تسمع بكثافة، فظن عناصر الدوريتين أن أشتباكات معتادة تحصل بين الفصائل الفلسطينية، وأخرها ما حصل يوم 9 نيسان في مخيم ضبية وأدى الى سقوط عدة قتلى وجرحى بسبب لعبة فليبرز!.

وجهت غرفة العمليات لشرطة بيروت مجموعة بقيادة ضابط، مكلف بحواجز متنقلة ليل 9/10 نيسان، الى شارع فردان وأشتبكت الدوريات المنطلقة من الفرقة 16، مع المسلحين المرتدين اللباس المدني وبعضهم يرتدي المعطف فوقها، والمجهولي الأنتماء والهوية، وكانت الساعة بحدود 1:30 فجراً أصيب من القوة الأمنية 9 جرحى وشهدين (الشرطي كمال تامر الأمين، والشرطي رفعت حسن) وأستشهد لاحقا الشرطي زهير العقيلي بعد 6 أشهر من أصابته بالحادث.

حضرت سيارات الأسعاف لنقل الجرحى وتمت مطاردة السيارات الست التي عثر عليها متوقفة قرب شاطىء الرملة البيضاء، وعثر فيها على بقايا دماء وبعض الذخائر والأسلحة الأسرائيلية، فيما غادر الكومندس ألأسرائيلي بقوارب مطاطية سريعة نقلت أفراد العدو الى باخرة قريبة من الشاطىء اللبناني.

تبين أن المجموعة المغيرة ، بقيادة الرائد أيهودا باراك، نزلت على شاطىء الكرنتينا، حوالي الساعة صفر وثلاثين دقيقة من يوم العاشر من نيسان، وأقدمت على نسف محل خراطة في محلة الدورة يملكه أحد الفلسطينيين، ثم نسفوا مشغلا للمراكب الصغيرة على شاطىء الأوزاعي، يملكه محمد ناصر، وتوزعت المجموعة المغيرة ما بين شارع فردان، مبنيين يقطنهما القادة الفلسطينين الثلاثة، ويحرسهما مسلحون من المنظمة، أقدم الكومندس على قتلهم برصاص كاتم الصوت ، ودخلوا بثياب مدنية الى الطوابق الثلاثة وقتلوا القادة أمام أعين أفراد عائلاتهم وأنسحبوا بسرعة تحت غطاء من أطلاق النار، وتبادلوا الرصاص مع قوة الشرطة والفرقة 16، المدربة والمجهزة للتصدي للحوادث الفورية العادية وليست مجهزة بالقذائف والعتاد المتوفر لدى الجيش اللبناني وبين الطريق الجديدة، بناية درويش، حيث تستقر مكاتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي أقدمت على خطف عدة طائرات عدوة وفجرت بعضها انتقاماً للعدوان الاسرائيلي على مر الأعوام أعتبارا من 1948، وأقدم عناصر الكومندوس العدو على قتل حراس المبنيين وأطلاق صواريخ محمولة وقذائف بأتجاه الشقة العائدة للجبهة وتابعوا مهامهم العدوانية..

أثناء عمليات المداهمة أقترب الملازم الأول سيف الدين فهمي، أحد ضباط الشعبة الثانية في الجيش اللبناني، والذي يقيم على مقربة من بناية القادة الفلسطينين الثلاثة، لاستطلاع ما يجري من عمليات أمنية ، فأصيب بالرصاص في قدمه ونقل للمعالجة أسوة بعناصر الشرطة اللبنانية جرحى النيران ألاسرائيلية المغيرة.

تبين لاحقا أن مجموعة من الكومندوس الاسرائيلي نزلت شاطىء الأولي لبعض الوقت من قوارب مطاطية قادمة من باخرة حربية على مقربة من الشاطىء، استطلعت وغادرت المكان، عبر الزوارق عينها ، ربما عن طريق الخطأ. 

أستغرقت عملية الكومندس الأسرائيلي في بيروت حوالي 45 دقيقة، بحيث بدأت عملية فردان الساعة الواحدة تقريبا وأستمرت حتى الساعة الواحدة والدقيقة 45، حين أخلى عناصر الكومندس العدو السيارات المستاجرة وتركوها على شاطىء الرملة البيضاء وأنتقلوا في قوارب مطاطية سريعة، الى الباخرة الحربية باتجاه فلسطين المحتلة.

وصلت قوة من الجيش اللبناني الى شارع فردان حوالي الساعة 1:45 دقيقة، بعد أنتهاء العملية، وكانت عمليات الجيش تبلغت من غرفة عمليات شرطة بيروت ، بأن معالجة حادث أطلاق النار، الغير واضح المعالم بحينها،سيتم من قبل شرطة بيروت، وهم يجهلون جقيقة وجود كومندوس عدو في العاصمة بيروت، وكان أعتقادهم أن أطلاق النار يتم بين فصائل فلسطينية مسلحة عادة ما تحدث لبعض الوقت ، ثم يتولى الكفاح المسلح الفلسطيني ضبط الأمور تبعا لاتفاق  القاهرة 1969.

وقع للعدو المغير عدة ضحايا بدليل وجود بقايا دماء في السيارات الثلاث المستأجرة المستخدمة بالعملية.
أن ضبابية المعلومات المتكونة عن عمليات أطلاق النار في شارع فردان وطريق الجديدة في الدقائق الأولى للحادث جعل قوى الجيش اللبناني والشرطة اللبنانية ، غير متمكنة من أتخاذ الرد المناسب. وساد الأعتقاد لحوالي 30 دقيقة، بأن ما يحصل هو عمليات أطلاق نار بين الفصائل الفلسطينية المتعددة الأنتماءات كالعادة، ولم تتكشف حقيقة العملية، الا بعد العثور على السيارات المستأجرة على الشاطىء وفيها بقايا أسلحة وعتاد للعدو.

وبعد أن أتصل أبو عمار برئيس الحكومة اللبنانية الساعة 1:45 يعلمه بأن القادة الفلسطينين الثلاثة قد استشهدوا نتيجة عملية كومندس إسرائيلية استهدفتهم  في منازلهم منذ قليل.

ثالثا: الخلاصة.

لقد أستبسلت الشرطة اللبنانية بالتصدي للقوة المغيرة فجر العاشر من نيسان ، في شارع فردان،بيروت. ولو أنها تحققت باكرا هوية وحقيقة القوة المنتقلة بسيارات أجرة وبلباس مدني ،ربما كانت أستدركت الوسائل المناسبة وأستعانت بالجيش اللبناني للموازرة، وأن نجاح عملية الكومندس العدوة أرتكز الى عنصر المفاجاة والاستخبارات الدقيقة عن أماكن سكن القادة الثلاثة، مكاتب الجبهة الشعبية،  ومحل خراطة حديد للمنظمات الفلسطينية في الدورة، وضعف الأستخبارات لدى الأجهزة اللبنانية الأمنية والعسكرية بحينها.

قدمت الفرقة 16، التي استحدثها المقدم المغوار عزيز الأحدب، مدير البوليس 1959 ، كقوة طوارىء مجهزة ومدربة وسريعة التدخل لتصفية الحوادث في شوارع العاصمة، الدماء الغالية، من شهداء ثلاثة و9 جرحى، سطروا بدمائهم عنفوان لبنان، وأظهروا التصميم بالرد على النار بالنار ولو بظل عدم تناسب الوسائل بينهم وبين الكومندس الاسرائيلي المغير.

ترى هل تعود الهيبة والمعنويات العالية، والتصميم على القيام بالواجب وحماية الممتلكات والأشخاص والسلامة العامة للمواطنين، من قبل قوى الأمن الداخلي، كل قواها،في وقت تعاني الفقر والحاجة والقلق نحو المستقبل بظل أنهيار قيمة العملة الوطنية، ضعف التقديمات الأستشفائية والأجتماعية لعنصر الأمن وعائلته ، وعدم قدرة الشرطي المادية لتأمين تكاليف أنتقاله من منزله الى موقع الأستخدام، لغلاء المحروقات وانعدام وسائل النقل العامة والعسكرية لشح بالموازنة ؟

إننا نرفع الصوت عاليا لتلتفت الحكومة اللبنانية بسرعة لتقديم العون المادي لدعم صمود مؤسسة قوى الأمن الداخلي لتبقى الحصن المنيع بحماية الحريات العامة وحقوق الأنسان والتصدي للجريمة ،كضابطة أدارية تسعى لمنعها ،أو كضابطة عدلية تلاحق المجرمين ومرتكبي الجرائم وتودعهم القضاء لأخذ القصاص الجزائي المناسب. 

———————————

* قائد الشرطة القضائية سابق 

عرمون في 1/6/2022

(مقال منشور بشكل متزامن بين “الدنيا نيوز” ومجلة “الامن” اللبنانية).