الحمار الذي ظلمه الانسان هكذا تعاملت معه الآداب العالمية

الدنيا نيوز – دانيا يوسف


عومل بقسوة وتطلّع الانسان إليه بدونية واحتقار يلامس العداء والقسوة. انه الحمار خادم الخدم والعامل عند المُزارع الذي يعمل بدوره عند سيد أعلى منه شأناً. ولذا، كان من الطبيعي أن يتركَّز عليه كل الاضطهاد الذي يلقاه سيده المباشر من قبل سيده الأعلى. ونرى أن المعاملة الفظة والغليظة حتى حدود الشراسة التي عومل بها الحمار أيام “لوكيوس أبوليوس” في الإمبراطورية الرومانية هي نفسها التي شاهدها توفيق الحكيم في مصر خلال القرن العشرين، ويلحظها أي شخص اليوم في أية بيئة زراعية.
ورأى الانسان في قدرة الحمار على التحمل واستكانته غباء. وتحوّل اسمه على مرّ العصور في معظم لغات العالم إلى شتيمة، تطلق في وجه كل من يفتقر إلى الذكاء أو حُسن التصرف.
استخدمت آداب شعوب العالم الحمار مادة لإلقاء موعظة أخلاقية أو فلسفية على الإنسان، أو تلقينه حكمة معينة. وعلى مدى عشرين قرناً تعددت أشكال ظهور الحمار في الأدب، فحضر في عشرات الأعمال التي خرجت من بيئتها المحلية إلى العالمية، لتصبح جزءاً مهماً من التراث الثقافي للإنسانية.
“الحمار الذهبي” أقدم رواية في التاريخ:
رواية “الحمار الذهبي” تعدّ أقدم رواية في التاريخ كتبها “لوكيوس أبوليوس” في القرن الثاني الميلادي. تحكي هذه الرواية المستمدة من أصل يوناني، قصة رجل يتحول بفعل السحر إلى حمار، صاغها المؤلف بصيغة المتحدث وكأنها مذكرات. وإذا كان المؤرخون قد أولوا هذه الرواية أهمية كبيرة لجانبها التاريخي والفلسفي، فإن حيزاً كبيراً من قيمتها الأدبية يتمثل في قدرة الكاتب على تقمص شخصية الحمار وتصوير حياته وما يعانيه على أيدي البشر الذين تعاقبوا على امتلاكه ما بين واحد اشتراه، ولصوص سرقوه. فكتب في هذا الإطار صفحات مؤثرة عن الظلم والقسوة.
حمار كليلة ودمنة:
خلال القرن الثامن الميلادي، ترجم ابن المقفع إلى العربية كتاب كليلة ودمنة لمؤلفه الهندي بيدبا. ويتضمن هذا الكتاب مجموعة حكايات أبطالها من الحيوانات البرية والداجنة الذين يتفاعلون فيما بينهم وكأنهم من البشر، وتهدف كل حكاية إلى إلقاء موعظة أو استخلاص حكمة معينة، ولذا سميت كل حكاية مثلاً. وفي مَثَلِ الأسد وابن آوى والحمار، يظهر هذا الأخير بصفتين: المظلوم والأحمق.
الأحمق والحكيم والجبان:
غير أن ذروة الأدب الذي أنسن الحمار لإلقاء المواعظ والحكم، كانت في أعمال الشاعر الفرنسي جان دي لا فونتين الذي كتب ثلاث مجموعات من الحكايات الشعرية عرف كيف يسخِّر فيها الحيوانات لتوجيه أقسى أنواع النقد لأحوال المجتمع الفرنسي وقيمه وعاداته آنذاك.
ويظهر الحمار في أعمال لافونتين في أشكال عديدة. فهو مرة ضحية عاجزة ومرة حكيما وأحيانا معتد بنفسه بغباء أو جبان واحمق.
حمار جحا واقعي:
في نوادر الشيخ نصر الدين جحا الرومي، يشغل الحمار دور البطولة الثانية من دون منازع إلى جانب البطل الأول جحا. وحمار جحا واقعي، أي انه مجرد حيوان أليف يرافق صاحبه ويشاطره مغامراته كما في أي مجتمع زراعي أو قروي.
حمير الحكيم:
لا بد من التوقف أمام الظهور المميز للحمار في أعمال واحد من أعمدة الأدب العربي في القرن العشرين، ونقصد به توفيق الحكيم. كتب الحكيم كتابين، احتل الحمار مكانه على عنوانيهما. الأول “حمار الحكيم” والثاني هو “حماري قال لي”. رافق‏ ‏الحمار ‏‏توفيق‏ ‏الحكيم‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏مغامراته‏ ‏تقريبا ‏فنشأت‏ ‏بينه‏ وبين هذا الحيوان‏ ‏صداقة‏ ‏حميمة‏ ‏وألفة‏ ‏جعلته‏ ‏رفيق‏ ‏دربه‏ ‏على‏ ‏صفحات‏ ‏كتبه‏ ‏يتحدث‏ ‏معه‏ ‏ويناقشه‏ ‏ويستلهم‏ ‏من‏ ‏صمته‏ ‏جميع‏ ‏كتاباته‏ ‏ومناقشاته‏ ‏السياسية‏ ‏والاجتماعية‏ ‏والثقافية‏ ‏النقدية‏. ‏وقد‏ ‏يتساءل‏ ‏سائل‏: ‏لماذا‏ ‏الحمار‏ ‏بالذات؟‏ ‏ ‏وهنا‏ ‏يجيب‏ ‏الحكيم‏ ‏بنفسه‏ ‏قائلا‏: “‏الحمار‏ ‏له‏ ‏في‏ ‏حياتي‏ ‏شأن. ‏لقد‏ ‏سميت‏ ‏الحمار‏ ‏الفيلسوف‏. ‏إنه‏ ‏علمني‏ ‏أشياء‏ ‏كثيرة‏ ‏بمجرد‏ ‏صمته‏ ‏وارتفاعه‏ ‏عن‏ ‏لجج‏ ‏البحر‏ ‏الخضم‏: ‏بحر‏ ‏السخف‏ ‏الإنساني‏!”
حمار فيكتور هوغو يواجه كنط:
في القرن التاسع عشر، حضر الحمار على أقرب مسافة من الفلسفة، إذ أجلسه الأديب الفرنسي فيكتور هوغو في مواجهة الفيلسوف عمانوئيل كنط.
أمضى هوغو مدة طويلة من الزمن في كتابة قصيدته المسماة: الحمار. وفي هذه القصيدة نستمع إلى حمار يدعى باسيانسpatience (أي صبر بالفرنسية) يحاور على مدى خمس وستين صفحة الفيلسوف كنط، الذي كانت مكانته الفكرية في ذروتها آنذاك.
يرسم الحمار في هذه القصيدة، من خلال مرافعته العنيفة والانفعالية، صورة للإنسان الميؤوس منه. ولا يجد عذراً وجيهاً يسوِّغ تصرفات هذا الإنسان. فيقول إن العلم ينحني أمام السياسة. ويتحدث عن إحراق العالمين جيوردانو برونو وكامبانيلا بدلاً من الاستماع إلى استجوابهما، ويشير إلى غاليليو الذي تنكر ليقينه العلمي خوفاً من المصير نفسه. ولا يجد الفيلسوف كنط أية حجة عقلانية يقارع بها مرافعة الحمار الانفعالية، فيعلن في نهاية القصيدة اقتناعه بصواب آراء الحمار، ويعبِّر عن قلقه من صورة الإنسان: عالِمٌ ولكنه خبيث، جبانٌ أمام الكبار، ولكنه من دون رحمة أمام المساكين.

_____