التحري يكشف تفاصيل مروعة لنشاط الاستخبارات الخارجية في زرع الفتنة بين اللبناننين منذ الخمسينات

 

بقلم العميد انور يحيى *

 

أواسط الخمسينات من القرن العشرين،وفي بلدة جون قضاء الشوف، التي تحتضن تعايشا إسلاميا مسيحيا لم يعكره أي حادث بطابع طائفي سابق، عُثر على الإستاذ الياس ،المُدِرس في إبتدائية القرية،مقتولا برصاصة  في رأسه،أثناء رقاده ليلا على شرفة منزله، وهو الأستاذ المعروف بحسن سمعته وتفانيه بتعليم أبناء القرية دون تفريق،ولا عداوات له.

إُستخرجت الرصاصة العالقة في جمجمة الضحية  وُضبطت خرطوشة فارغة في مسرح الجريمة  أودعتا  الأدلة الجنائية في الشرطة القضائية للإستثمار والمقارنة عند التوصل الى معلومات جديدة تنير التحقيق الذي لم يكشف وخُتِم وحُفظ في مكتب قاضي تحقيق جبل لبنان،الأستاذ بشير الأعور ،وهو المفوض السابق في مد يرية البوليس والذي باشر وظيفته ككاتب مفوضية سنة 1932  لحيازته مجازا بالحقوق، لكنه استقال بعد عشر سنوات وأضحى قاضيا في العدلية،ومن ثم نائبا ووزيرا للداخلية والعدل ،لأكثر من مرة!.

بعد أسبوع على مقتل الأستاذ المسيحي في جون،وضِعت متفجرة داخل مقابر القرية والمخصصة للطائفة الأسلامية، وكانت تقارير الأمن العام ،تتقاطع مع أستخبارات الجيش اللبناني، بأن أيدي الفتنة أمتدت الى جون الهادئة،ودفع الأهالي الى الشك بعضهم ببعض؟

ترك الحادث الذعر والقلق لدى الأهالي ،وظل الفاعل مجهولا حتى أربعة أشهر، حين استقبل قاضي التخقيق وفدا من القرية يُطالبه بإعادة فتح ملف الجريمتين بتكليف  التحري المتخصص بكشف الجرائم الغامضة والخطرة،فأستجاب القاضي لطلبهم وأستناب فرقة تحري بيروت،حيث كلف قائدها  المفوض العام محي الدين حمادة، ،مفتش التحري فهد فرحات والمأمور أسعد مرهج، تنفيذ الأستنابة والبحث والتحري لكشف خفايا الجريمتين وتوقيف الجناة!

إنتقلت الدورية الى جون حيث كانت الأجواء مسمومة وكل طائفة تتهم الأخرى بقتل الأستاذ  المسيحي،أوتفجير قبور المسلمين!

بدأت التقصي والأستعلام عن الحادث وأسماء الأشرار وذوي السمعة السيئة والمشبوهين،وكان بينهم خمسة أشخاص ،أحدهم جندي في الجيش من القرية،سبق أن أستجوبه قاضي التحقيق وتركه حرا بعدما قدم أدلة مؤكدة بأنه كان ليلة مقتل الأستاذ في العاصمة بيروت ،يشاهد فيلما مع خطيبته  في السينما  ونام في العاصمة!.

استمعت الدورية الى الإدعاء والشهود وكاهن الرعية وإمام المسجد ورئيس البلدية والمختار،وأجمع هؤلاء بأن القصد من الجريمتين،الفتنة في جون.

أحد المخبرين السريين  المتعاونين مع التحري،أكد أنه شاهد الجندي ليلة مقتل الأستاذ في البلدة، وهو من أصحاب السمعة السيئة. أطلع مفتش التحري ،قاضي التحقيق الأستاذ بشير الأعور،وطلب أستجواب الجندي،فأتصل المحقق بمفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الذي  وافق على استماع الجندي الذي أوقفته الدورية وخضع للأستجواب في دائرة الشرطة والمباحث،ساحة البرج، وسط العاصمة.

إنتشر خبر توقيف الجندي في القرية ومحيطها.. وبعد ثلاثة أيام إتصل أحد وجهاء قرية مجاورة بمفتش التحري وأعلمه بأن صديقه ،صاحب متجر لبيع المجوهرات في صيداء ،أعلمه بان هذا الجندي،المشتبه فيه، قد حضر الى محله صبيحة تاني يوم مقتل الأستاذ ،وأودع عنده مسدسا حربيا عيار 9 ملم،مُخبأ في صرة من الثياب،طالبا أبقاؤه لمدة أسبوع فقط بحجة خوفه أن يوقفه الحاجز العسكري المركز على جسر نهر الأولي،وحيث يُمنع على الجنود خارج الخدمة  نقل أي سلاح حربي تحت طائلة التوقيف العدلي والإحالة أمام المحكمة العسكرية،وقد مر على تاريخ إيداع المسدس  أكثر من أربعة أشهر ولم يحضر الجندي لتسلم مسدسه!

تُرك الشاهد حرا وضبط المسدس وتسع طلقات عيار 9 ملم ُضمت الى التحقيق.

أنكر الجندي علاقته بمقتل الأستاذ المسيحي في البلدة،وأصر أنه كان مع خطيبته ليلة الحادث في بيروت، لكن المفتش قابله مع قريبه الذي أكد أنه شاهده ليلة الحادث في جون.

لم يلبث أن إنهار عندما شاهد المسدس،أداة الجريمة،وأفادة صاحب متجر بيع المجوهرات في صيدا،وطلب من المفتش تخفيف الضغط عليه ،والذي كان يُمارس بتلك الأيام أثناء التحقيقات لدى التحري! وسيطلعه على كل الحقيقة.

إعترف الجندي بأن أحد أجهزة الأستخباراتية الخارجية،وبهدف زعزعة الأستقرار الأمني بحينها ، كلفه تنفيذ عملية قتل الأستاذ المسيحي وصاحب السيرة الفاضلة،وثم تفجير مقابر المسلمين في القرية الهانئة مستعينا بمتفجرة تسلمها منهم ،لزرع الفتنة وأفتعال المشاكل وتقاضى مبلغ  الف ليرة لبنانية مقابل الحادثين،وكان مرتاحا لعدم توقيفه،لاسيما ،بعد أن أثبت لقاضي التحقيق وجوده في بيروت مع خطيبته ليلة جريمة القتل،وتُرك حرا،فكيف تمكن التحري من إماطة اللثام عن الحقيقة؟

أودع المسدس والرصاصة المستخرجة من رأس الضحية، والخرطوشة الفارغة ،مكتب المختبرات الجنائية في الشرطة القضائية،حيث تطابقت الأدلة وتاكد القاضي أن المسدس المضبوط هو أداة القتل وأعتراف الجاني بالحقيقة!

أودع الجندي والمضبوطات قاضي التحقيق في جبل لبنان،الأستاذ بشير الأعور ،الذي أُ عجب بجدارة التحري، وتذكر أيامه الأولى في التحري والجرائم التي كشفها بتقنيات متواضعة،وأقترح ترقية المفتش ومامور التحري إستثنائيا،وقد حضر القاضي وقائد الشرطة القضائية المفوض العام الممتاز  شاهين القزي  الى مبنى المباحث ساحة البرج،وأستمعا إفادة الجندي بنتيجة العمل المضني للدورية والتقنية العالية بالتعاطي مع المخبرين والشهود وتامين حمايتهم .

أستمرت محاكمة الجندي سنتين وقد صدر الحكم المبرم عن محكمة جنايات جبل لبنان وقضى بإعدامه ،وأصر الرئيس كميل شمعون على تنفيذ الحكم لتثبيت الأمن ونشر الطمانينة وفقا للأصول.

تابع المكتب الثاني في الجيش اللبناني التقصي عن أفراد العصابة التي كلفت الجندي،بجريمتي القتل للأستاذ وتفجير مقابر المسلمين في البلدة وتمكنت بعد ثلاث سنوات من توقيفهم ومحاكمتهم.

كان الجاني قوي البنية،عريض المنكبين ثقيل الوزن، وأثناء تنفيذ حكم الأعدام به  شنقا،وبعد تعليق الحبل حول عنقه،وإزاحة الخشبة من تحت قدميه،إنقطع حبل المشنقة وسقط أرضا،ليعاد رفعه وتعليقه بحبل أخر ومات معلقا وسط فرح الأهالي بعد نيله القصاص العادل مقابل تأمره لأشاعة الفتنة بين أهالي جون، الذين أحتفلوا بعد مرور أربعين يوما على موته،بأقامة حفلة فنية أحياها أبن البلدة،المطرب نصري شمس الدين،والتي ضمت كل أهالي القرية وبحضور مفتش التحري فهد فرحات والمامور مرهج،وقدم رئيس البلدية درعا تكريما لهما تقديرا،وأصدار مدير البوليس الأستاذ صلاح اللبابيدي،تهنئة مع  مكافأة مالية لهما.

لا غنى للقضاء عن إستثمار قدرات الشرطة والتحري لكشف الجرائم الخطرة والغامضة،فنشاطهم  ،كضابطة عدلية معاونة للنيابة العامة وقضاء التحقيق،والإستعانة بالمباحث العلمية والمخبرين وحمايتهم، وتقنيات التحقيق الجنائي ، والمحافظة على سرية التحقيق، كل ذلك يشكل الطريق الأقصر والأنسب لنيل الجناة القصاص العادل عبر المحاكم الجنائية، ولنشر الطمانينة بين الناس.

لكن،هل تأثرت قدرات المباحث وعناصر الأمن بظل الفساد المالي والنكد السياسي وتاّكل قيمة النقد والراتب والغلاء الفاحش بحيث أضحت القوى الأمنية عاجزة عن الوصول الى قطاعاتها أحيانا مع غلاء المحروقات وتراجع التقديمات الصحية، بظل فراغ سياسي ، وأنهيار هيبة أجهزة الحكم ،وأضراب القضاة منذ أكثر من أربعة أشهر،  مطالبين بتحسين ظروفهم المالية،فأضحىت الضابطة العدلية عديمة الأجراءات بإشارة القضاء بحجة الضغط على الحكم لتحسين أوضاعهم المعيشية،ليبقى المواطن ضحية الجريمة وضحية إحجام العناصر الأمنية (بإشارة القضاء)عن القيام بمهامهم وحماية سلامة الناس وممتلكاتهم وفقا للقانون؟

—————————————-

* قائد سابق للشرطة القضائية

عرمون في 3/11/2022