التبادلية ..

بِقَلَم ألعَميد مُنْذِر ألأيوبي *

عشرين الف جندي مِن القوات الارمنية تابعين للفوجين السادس و السابع تحت الحصار مهددين بألأسر بالتزامن مع تحييد “مقتل” اكثر مِن 400 جندي مِن الكتيبة 556 بينهم نائب قائد الجيش الاول (العقيد فيكتور اروستاميان) اضافة الى تَدمير عتادهم العسكري و اسكات قوتهم النارية مِن اسلحة المدفعية و المدرعات و المشاة ألمؤللة كانا كافيين لتوقيع رئيس الوزراء الارميني “نيكول باشينيان” عَلى وثيقة وقف العمليات العسكرية و تثبيت القوى المتواجهة في اماكنها عَلى خطوط الجبهات مع انهاء الحرب مرحليآ بين جمهوريتي أذربيجان و أرمينيا المتنازعتين حول اقليم “ناغورنو كاراباخ” الخاضع حاليآ للحكم الذاتي تحت السيادة الارمينية عَلى مبدأ (مكرهآ أخاك لا بطل) ..!
ستة أسابيع مِن حرب طاحنة اندلعت فجأة بين الجيشين ألآذري و الارمني عَلى خلفية نزاع امتد منذ تسعينيات القرن الماضي حول هوية الاقليم ادت لسقوط آلالاف القتلى و الجرحى اضافة الى تهجير مئات الالاف من قراهم و بلداتهم الى مناطق اكثر أمنآ كان مِن نتائجها المباشرة استعادة آذربيجان ثلاث محافظات مِن الاقليم كانت تحت السيطرة الارمينية مِن ضمنها مدن “شوشا – قوبادلي – جبرائيل – فضولي – زنغلان”..
و في لمحة جد مختصرة تحظى دولة اذربيجان عَلى اعتراف دولي بحقها السيادي عَلى الاقليم كجزء مِن اراضيها علمآ انه يخضع لسيطرة “ياريفان” منذ عام 1994 وفق اتفاق لوقف اطلاق النار تعذر إلحاقَه باتفاق سلام دائم لَطالَما اعتبرته “باكو” مجحفآ بحقها مبقيآ جمر الخلاف تحت رماد الوصاية ..

كان مِن الواضح منذ بداية المعارك التفوق العسكري للقوات الآذرية المدعومة مِن الجيش التركي عَلى الوحدات الارمنية التي اتخذت وضعية الدفاع مرغمة لاحقآ عَلى تنفيذ قتال تراجعي امام القوى المهاجمة
كما سمحت سيطرة المدرعات و المدفعية الاذرية عَلى التلال الاستراتيجية لبعض الجبهات جنوب الاقليم بمتابعة تقدمها .. المعلومات تشير الى انسحاب بعض قادة الكتائب الارمنية عن خطوط الجبهات و العودة الى ثكناتهم في مدينة آرارات نتيجة الخسائر الفادحة التي منيت بها قطعاتهم العسكرية و رفضهم متابعة القتال .!
استطرادآ ؛ نتيجة الوضع الميداني المتردي اذعنت ارمينيا للتدخل الديبلوماسي و العسكري الروسي الذي فرض على البلدين اتفاق الهدنة برعاية موسكو حرصت مِن خلاله عَلى تثبيت وقف العمليات و منع الخروقات عَبرَ انتشار قوات حفظ السلام الروسية التي يقدر عَديدُها بحوالي 2000 جندي وفق ما اعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية (اللواء إيغور كوناشينكوف) ..

مِن جهة اخرى ؛ و دون الدخول في تفاصيل البنود فقد اثار توقيع الاتفاق استياءً عارمآ لدى قادة الاحزاب السياسية الارمنية المعارضة التي اطلقت سلسلة تحركات و مظاهرات نَحَت نحو عنف غير مبرر تعرض خلاله مقر رئاسة الحكومة للاقتحام و النهب ؛ في حين اعلن المحتجين ان الاتفاق لا يحظى بموافقة الشعب الارمني متهمين رئيس الوزراء “ياشينيان” بالخيانة و الاستسلام امام الرئيس الاذري “الهام علييف” متنازلآ عن جزء مِن الاقليم ، و هذا ما حفلت به وسائل التواصل الاجتماعي مِن تفاعل غاضب عَلى الاتفاق الذي وصف بالاستسلام ..
تاليآ اذا كان سياق العمليات العسكرية (حرب المرتفعات) قد فرض الرضوخ الارمني لبنود الوثيقة من قبل رئيس الوزراء فهو وصف بداية الاتفاق ب “المؤلم” معلنآ في كلمة متلفزة بثتها وسائل الاعلام تبرير توقيعه عَلى الشروط الواردة لعدة اسباب منها موافقة رئيس جمهورية ألأقليم “أراييك هاروتيونيان” عَلى وضع حد للاعمال العدائية تلافيآ لسقوط كامل الاقليم “آرتَساخ” بيد الجيش الاذري ، اضافة الى وجود الضمانة الروسية بحماية (ممر لاتشين-5 km” الاستراتيجي الذي يربط اقليم كاراباخ بأرمينيا مِن قبل وحدات الشرطة العسكرية لمدة خمس سنوات بالتوازي مع تركيز 16 نقطة مراقبة عَلى طول خط الجبهة ؛ اما الاهم الغير معلن مِن الاسباب فيكمن في اصرار رئيس اركان الجيش الارمني “الجنرال أونيك كاسباريان” عَلى القبول بالاتفاق بعد “تسريح عدد مِن قادة الافواج المترددة في مواصلة القتال” و انقاذآ للجيش نظرا لعدم توازن القدرات العسكرية و الامكانات اللوجستية اذ يحتل الجيش الاذري المرتبة 64 عالميآ في حين ان الجيش الارمني في المرتبة 111 ..
في سياق مُتَصل ؛ أسئلة تُطرح هَل مِن متغيرات جيوسياسية تفرضها استراتيجية الرئيس بوتين و مصالح بلاده عَلى الاقليم .؟ هَل الرئيس التركي اردوغان عَلى تنسيق ايجابي مع الكرملين لجهة حصوله عَلى مكتسبات و المشاركة في تقاسم النفوذ بالحد الادنى الغير مزعج .؟ او القابل للإحتواء .!
بالعودة الى الوراء زمنيآ يسجل عدم الاعلان عن عملية دمج جزئية و محسوبة لملفين اقليميين قد تمت عَبرَ مرونة روسية يمكن الركون اليها تسمح بالتمدد التركي الى ليبيا لا سيَما في مدينة سرت الساحلية و ذلك بالتزامن مع انسحاب و اعادة انتشار الجيش التركي في عدة مناطق من الشمال السوري و اخلاء المنطقة جنوب الطريق الدولية الحيوية M4 مع خفض عديد القوات التركية و الاسلحة الثقيلة في منطقة ادلب ..!
أيضآ ، هل حرب الستة اسابيع الارمنية – ألآذرية نسخة منقحة وفق قاعدة “التبادلية” Commutativity « بمعنى قابلية العملية الرياضية Équation عَلى تبديل اماكن مدخلاتها دون تغير النتيجة » تصب في نفس السياق .؟ إذ لوحظ انسحاب القوات التركية مِن نقاط تمركزها في الشمال السوري و تفكيك النقطة 9 الاهم “قاعدة مورك” شمال محافظة حماه اضافة الى نقاط عدة محاصرة مِن قبل الجيش السوري النظامي جنوب محافظة ادلب بألتزامن مع تبدل جغرافي خطير عَلى ارض الميدان في اقليم (آرتساخ) لصالح آذربيجان حيث النفوذ التركي ، اذ اخذ الوقت مداه قبل تدخل موسكو للجم صراع محتدم داخل حديقتها الخلفية رغم وجود ميثاق دفاع مشترك في حال تعرض جمهورية ارمينيا لاي اعتداء سيق تبرير ان ميثاق الدفاع لا يشمل اقليم كاراباخ و بالتالي يَصُب ايضا في خانة التوازن الغير مباشر لجهة العلاقات المميزة بين العاصمتين باكو و موسكو ..!
اللعبة الجيوسياسية تتكرر فالسلاح الروسي يورد الى كلا الجيشين الآذري و الارمني ؛ أما مصالح روسيا جنوب القوقاز فلا مساومة عليها .. كما ان تجاهل واشنطن لما يحدث غير مرتبط بانشغالاتها في الانتخابات الرئاسية بَل نِتاج معرفة الدولة العميقة للمدى الحيوي الجغرافي لروسيا و مصالحها الاستراتيجية ..
هو حكم الاقوياء عَلى سطح الكوكب بعد اختبار لَيٓ الاذرع لهم الغلبة انى توجهت شرقآ او غربآ دون صحوة سلام تمجد الله في الاعالي و تدع في الناس المسرة ..!

بيروت في 15.11.2020
*مختص و باحِث في الشؤون الامنية و الاستراتيجية.