“الاستقلال الاستراتيجي” اهم نتائج الزيارة الفرنسية الاوروبية للصين..!

بقلم العميد منذر الايوبي*

في اعقاب زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الصين ولقائه نظيره “شي جين بينغ” على مدى ثلاثة ايام، بمشاركة رئيسة المفوضية الاوروبية “اورسولا فون دير لاين”؛ نشرت صحيفة Les Échos الفرنسية مضمون مقابلة اجراها الصحافي Nicolas Barre مع ماكرون، تضمنت بصورة لافتة للمرة الاولى رؤيته ودعوته الاتحاد الاوروبي للكف عن نهج التبعية مع الولايات المتحدة والعمل على تحقيق “الاستقلال الاستراتيجي” strategic independence..!

في المبدأ، يأتي خيار استقلال القرار الاستراتيجي ليشمل الجوانب السياسية العسكرية والاقتصادية، للدولة او الاتحاد.. السؤال هنا أنى لاوروبا هذه القدرة في ظل المتغيرات والاصطفافات الدولية،
لا سيما مع اشتعال واستمرار الحرب الروسية- الاوكرانية..؟
في موجبات تحقيق المراد جملة بنود ليس اقلها دون حصر:
•استقرار الدولة العميقة او الاتحاد، مع رسم استراتيجية عليا شاملة وعقلانية..
•استقلالية القرار السياسي بمعزل عن واشنطن بصورة خاصة سواءً في العلاقات الدولية كما التحالفات العسكرية والمعاهدات الاقتصادية.. الخ..
•تحقيق خطة دفاعية موحدة، تضمن الاكتفاء العسكري تصنيعآ وتسليحآ، وهنا تستعاد فكرة إنشاء الجيش الاوروبي الموحد التي سبق وطرحها الرئيس الفرنسي عام 2019 دون المس في بنية حلف شمال الاطلسي NATO.او الخروج من عضويته..
•تعزيز دور المؤسسات المالية وبنك الاستثمار الاوروبي، كما خفض الاعتماد على الدولار الاميركي في التبادلات التجارية مع تعديل سلاسل التوريد وتنويع مصادر الطاقة والغذاء..


•رفع مستوى التصنيع الرقمي للموصلات والشرائح الالكترونية، مع اعتماد برنامج تدريجي يؤدي الى اغلاق الفجوة التقنية زمنيآ، بما يكفل عدم الحاجة الى حد ما لمنتجات الصين وتايوان.. الخ…
في نفس السياق، ان السعي الى هدف “الاستقلال الاستراتيجي” لاوروبا سيكرس التعددية القطبية على المسرح الدولي.. وهذا ما يتناقض مع صلب استراتيجية الحليف الرئيسي الولايات المتحدة الاميركية ويضعف نفوذها لكنه يتناغم مع دور كل من روسيا والصين..!
في موضع التحول؛ فرز الادوار استنادآ للقدرات والامكانات، اذ سيقود هذا الطموح الدولتين المؤهلتين اوروبيآ “فرنسا والمانيا” اما بريطانيا فلن تتوانى عن البقاء مع حليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة إن لم تشكل حصان طروادة، وهو ما كان واضحآ عام 2019 عندما انسحبت من الاتحاد الاوروبي، في حين ابقت يومها على بعض جوانب الاتحاد الجمركي بين ايرلندا الشمالية والسوق الاوروبية الموحدة لمنع (الحدود الصلبة=عبور الاشخاص والبضائع عبر المعابر الرسمية الفاصلة شطري الجزيرة الايرلندية) تلافي تنازل الاخيرة عن “اتفاق الجمعة العظيمة”او اتفاق بلفاست الذي انهى الحرب الاهلية المذهبية “الكاثوليك والبروتستانت”..

من جهة اخرى، عبرت الزيارة عن رغبة في تثبيت واعلان موقف اوروبي موحد ومستقل على المستوى الاستراتيجي، وبصرف النظر عن نتائجها التوية والمستقبلية فهي حاجة وخطوة هامة لإعادة التواصل، سيما بعد ترحيب الرئيس الصيني باعلان ماكرون رفض تبعية اوروبا لواشنطن او بكين في قضية جزيرة تايوان، اضافة الى اتمام عقود الصفقات التجارية الضخمة (افتتاح منشأة تصنيع طائرات Air bus الاوروبية) في مدينة Tianjin شمال البلاد ..

في الموقف الاميركي لم تستسغ واشنطن الخطوة الاوروبية ولم تخفِ ارتيابها لأسباب ومواقف سبق واعلنها الرئيس ماكرون؛ اذ لا يخفِ تحفظه عن سعي الرئيس الاميركي جو بايدن الى دفع حلفائه الاوروبيين لإتخاذ مواقف اكثر تشددا تجاه الصين، بحجة ممارساتها الاقتصادية والصناعية غير المتوازنة او العادلة مع معزوفة انتهاكات حقوق الانسان.. كما ان زيارة رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي تايوان” اضافة الى زيارة تلتها لوفد من الكونغرس؛ كذلك المناورات العسكرية الاميركية- الفليبينية مؤخرآ شكلت من منظوره تأجيجآ للأزمة مع تايوان.. زائد اعتباره زيارة رئيسة تايوان “تساي إنغ وين” الى نيويورك بداية الشهر الحالي ولقائها رئيس مجلس النواب Kevin McCarthy اتثير حفيظة بكين خطوة استفزازية لا ضرورة له..تاليآ؛ دعوة منسقة من الرئيسين الفرنسي والصيني الى محادثات سلام روسية-اوكرانية، لا سيما بعد زيارة الاخير موسكو ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمن اطار تحالفهما الاستراتيجي..

اخيرا، لا مناص من تبني استراتيجية جديدة للامن القومي الاوروبي ترتكز على سيادة وحرية القرار؛ اذ ان المعضلة المطروحة امام الاتحاد (فرنسا والمانيا بشكل خاص)، تتلخص بكيفية الموازنة بين استمرارية التحالف الاستراتيجي مع واشنطن وتأييد موقف الاخيرة المنحاز والمتبني ل Taipei من جهة، والحفاظ على المصالح الاقتصادية والتجارية والاستثمارية الهائلة مع بيجين من جهة اخرى..
صراع في عمقه السياسي بين نظامين ديكتاتوري وديموقراطي ينتمي الى العالم الحر.! اما السؤال المقلق والدائم الطرح اوروبيآ: ماذا ان غزت الصين تايوان .؟ وهل من قدرة على فك الارتباط الاقتصادي بين اوروبا والصين؟ كما حدث مع روسيا على خلفية غزو اوكرانيا..!
في الاستراتيجيات والعلاقات الدولية لا ضبابية كذلك لا مكان لعبارة “الامور مرهونة باوقاتها”…!

بيروت في 15.04.2023
*كاتب وباحث في الشؤون الامنية والاستراتيجية