أنيس فريحة.. القرية شكَّلت لغته الجميله لكنه مغمور بالاهمال والنسيان!

 

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

 

نشأته قروية جبلية… قدّر له سكنى المدينة والطواف في الآفاق شرقا وغربا، الا أن الانتماء الى القرية كان السمة الغالبة على عاطفته وفكره… لم يبتعد عن القرية أو يغترب، بل حملها معه أنّى حلّ واينما رحل. أصبحت هذه القرية موضوع علمه وتحوّل الى عالم بشؤونها ومؤرخا لأدق تفاصيلها…
نتحدث عن الأديب اللبناني والباحث في اللغة واللهجات والأمثال والملاحم والأساطير القديمة الدكتور أنيس فريحة…
في قرية رأس المتن اللبنانية التي تقع على هضبة شامخة، تكلل جبينها غابات كثيفة من الصنوبر ولد أنيس فريحة في 21 أيلول \سبتمبر عام 1902…
ويتحدث فريحة عن قريته في كتاب “القرية اللبنانية-حضارة في طريق الزوال”:
“ولدت في قرية نائية، احتفظت بالطابع اللبناني القديم-رأس المتن. ونشأت في بيت فلاح عتيق، وعشت في القرية الى أن شببت، وقمت بأعمال يقومون بها في القرية، ولعبت ألعابها، وعيّدت أعيادها، وسهرت سهراتها أمام الموقد وعلى السطيحة، فأصبح ما خبرته وسمعته وشعرت به جزءا من حياتي الروحية والعقلية”
كان والده “الياس فريحة” المعروف باسم “بو نجم” فلاحا محبا للأرض ومعلما في المدرسة البروتستانتية المتحررة من التعاليم الدينية. وكان يحث ابنه على العلم… يقول في كتابه “اسمع يا رضا”: ” كان لي وراء بيتنا العتيق ملعب محبب: شجرة الزيتون العتيقة التي كان يسمّيها والدي “المباركة”. كانت زيتونة عليها وقار الزمن.لا يعلم الناس من زرعها هناك لأنها أقدم عهدا من الناس. كان لها جذع عظيم نخر السوس لبّه فجعلناه مخبأ. وكانت غصونها غليظة ملتفة… عند ملتقى الأغصان الغليظة الملتفة، كنت أجلس أراقب البحر. كنت أحب مغيب الشمس عندما تغطس في البحر متخذة أشكالا هندسية بديعة: كرة حمراء، كأسا، صحنا أو قطعة من رأس البطيخ. ثم تختفي الأشكال في البحر…
بدأ أنيس فريحة تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية ثم انتقل الى مدرسة داخلية في “برمانا” الى أن بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914 فتوقف أنيس فريحة عن الدراسة طيلة فترة الحرب بسبب اقفال مدرسته وعدد من المدارس الأخرى…
وفي سنة 1918 عاد إلى المدرسة فأتم تعليمه في مدرستي الشويفات وسوق الغرب وهما مدرستان أجنبيتان…
التحق سنة 1923 بالجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج برتبه بكلوريوس سنة 1927، ثم نال الدكتوراه في العلوم السامية من جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية… ومارس مهنة التدريس في جامعة بيروت الأمريكية والجامعة اللبنانية، وجامعتي فرانكفورت بألمانيا، وكاليفورنيا بالولايات المتحدة.
لكن مهمته الأكاديمية كأستاذ للغات السامية والحضارات القديمة لم تمنعه من القيام بنشاط أدبي مميّز… فأرّخ لتاريخ القرية اللبنانية التي لم تدونه كتب ابنائها، بل رسخته عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم وفولكلورهم في صفحات الزمن. يقول في كتابه “اسمع يا رضا”: “اخترت لك قريتي لأني فيها ولدت… وفيها رأيت النور… في ساحتها لعبت ألعاب الضيعة، وفي جلاليها جمعت الأقحوان، وفي وعرها جمعت الزنابق. في ضيعتي رواب تسلقتها، تحت دواليها جلست مع الأولاد نفرك أوراق العريش الجافة لندّخنها كما يفعل الكبار. على حافة واديها المهيب جلست وجلس معي الأولاد…صرخنا فردّد الصدى صراخنا… اخترت لك قريتي لأنها نائية بعيدة عن العالم. سكانها لبنانيون عريقون في لبنانيتهم، شديدو الحفاظ على تقاليدهم،حريصون على عاداتهم.أفهمت الآن لماذا أحدثك عن قريتي؟”
اذا ارتبط أنيس فريحة بقريته ارتباطا وثيقا وجعل ما عاشه بالفطرة والسليقة حقل معرفة، واخصاص وتحوّل بالاكتساب الى عالم بشؤون القرية وجعل ما حفظه وسمعه من قصص وماثورات شعبية مادة قلمه… لم يكن متخصصا بالأدب الشعبي وحرص على استخدام مصطلح “فولكلور” فيقول في كتاب:”القرية اللبنانية-حضارة في طريق الزوال”: “اعتقادنا الخالص أن في هذا الفلكلور غنى روحيا، وجمالا بسيطا يستأنف الى القلب، كما يستأنف الشعر والموسيقى الى القلب، هو الذي حدا بنا الى جمع هذا التراث، الذي هو في طريقه الى الزوال. هذا الفلكلور مرآة تعكس لنا روح لبنان القديم، روح القرية. ولبنان مجموعة قرى، فاذا أردنا فهم لبنان على حقيقته، يجب أن نتفهّم روح شعبه الأصيل: أهل القرى”.
واهتمام أنيس فريحة بحضارة القرية قاده الى الاهتمام بلهجة أهلها، أو لغتهم كما يقول. ولاحظ شيوع الأمثال على السنتهم، واعتقادهم أن “المثل ما قال شي كذب” وأن “أمثال العوام ملح الكلام” لأنها تجعل الكلام مستساغاً، مما حداه على جمع الأمثال المتداولة أو المعروفة من ابناء قريته، وروايتها، وترجمتها الى الانكليزية، واصدارها عام 1974 في معجم ضمّ 4248 من أصل خمسة آلاف مثل ونيف، وقد رتبها على حروف الألفباء.
وقدّم أنيس فريحة لمعجمه بالانكليزية، ثم ترجم المقدمة الى العربية بتصرف، واصدرها في كتابه “دراسات في التاريخ”… وفي هذا الكتاب يضع فريحة تعريفا مختصرا للمثل فيقول:” المثل جملة شائعة ممهورة بالطابع الشعبي، وتحتوي على حكمة، أو على اختبار انساني”…
واولى أنيس فريحة موضوع اللهجات أهمية خاصة وقام بدراستها واعتمد على التسجيل الآلي ليتمكن من سماع اللهجة مراراً… واصدر خلاصة بحثه في كتاب اسماه “اللهجات وأسلوب دراستها”. واضافة الى ما تلقفه من أفواه الناس أضاف الى دراسته كراريس ومنشورات باللغة المحكية من قصص، وشعر زجلي، وصحافة محلية تظهر باللغة العامية في كتاب “معجم الألفاظ العامية”…
ظل انيس فريحة عاكفاً على البحث والتأليف على الرغم من تقدمه بالسن، حتى وافته المنية في 23 تشرين الثاني \نوفمبر عام 1993، عن عمر يناهز الواحد وتسعين عاماً. وترك مجموعة مؤلفات بلغ عددها حوالي الثلاثين كتابا في التاريخ والتراث والعادات والتقاليد والأساطير القديمة واللغة…
وتجدر الاشارة الى أن معظم هذه المؤلفات باتت بحكم المفقودة من المكتبات اللبنانية ويتعذّر على الباحث الحصول عليها الا في مكتبات بعض المتخصصين بالتراث الذين يملكون نسخ قديمة من كتب أنيس فريحة…
تلك محطات من سيرة أديب لبناني أحبّ القرية وتعلّق بها وهو القائل: “طوّفت في الدنيا. جلست في شيكاغو عند شاطئ البحيرة العظيمة وخلفي ناطحات السحاب. تطلّعت في الأفق البعيد فتراءت لي روابي الضيعة. تسلقت جبل كنيبس في الغابة السوداء. تزلجنا على الثلج ثم حدقت في الأفق البعيد فرأيت صنين وجبال الأرز. تذكرت أن في ضيعتي من يصلّي ومن يحب…”
خاف على حضارة القرية من الزوال وأنهى مهمته قانعا ببيت شيّده في رأس المتن وجلّله بالدوالي والأشجار المثمرة… فهل من يقرأ هذا المخزون الفكري كي لا يزول؟