أسطورة زهرة النرجس “نركسوس” (حكاية النرجسية) لكل معجب بنفسه

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

نرحل اليوم الى بلاد اليونان الحافلة بالأساطير في مختلف مجالات الحياة. ويطالعنا كمّ كبير من الحكايات والأساطير التي حيكت حول الزهور والورود والتي يعكس كل منها جانباً من جوانب السلوك الانساني ومنها أسطورة زهرة النرجس او النركسوس التي نسجت حولها الأساطير.
نركسوس هو الاسم الإغريقي لنرجس ابن إله النهر كوفيسوس، وهب منذ طفولته حسناً رائعاً وجمالاً لا يقاوم. نشأ نركسوس الجميل في أحضان المياه الجارية والمروج الخضراء ولم يره انسان دون أن يعجب بجماله. كان نركسوس مدركاً لجماله واطلالته الجذابة. لكنه لم يكن يتجاوب مع احد من المعجبين به اذ لم يكن يعرف الحب ولم يكن يقيم للعواطف وزناً. لكنه مع ذلك ظل محط انظار الجميع ومركز إشعاع للسحر والفتنة.
وكان من بين من أحبوا نركسوس وأعجب بجماله حورية تدعى “ايكو” وهي كلمة يونانية معناها الصدى. وكانت ايكو فتاة رائعة الجمال فائقة الحسن ومتحدثة لبقة عاشت وسط المروج الخضراء وعلى ضفاف البحيرات. ذات يوم جلست ايكو كعادتها فوق ربوة تتأمل الرائح والغادي واذا بها ترى من بعيد زيوس في صحبة حورية حسناء. وبعد لحظات لمحت هيرا زوجة زيوس تسعى لاهثة وقد بدت على ملامحها علامات السخط والغضب. فإستوقفتها ايكو وسألتها عن سبب سخطها وغضبها وعلمت أنها تبحث عن زوجها زيوس لكن ايكو إدعت انها لم تره في تلك المنطقة قط. وظلت تتحدث مع هيرا بصوت مسموع وأخذت تقص عليها قصصاً مسلية وكلما همت هيرا بمغادرة المكان كانت ايكو تستوقفها وتروي لها قصة جديدة. إنطلقت هيرا تطارده وعاقبت ايكو عقاباً شديداً فقد حرمتها حلاوة الحديث والقدرة على الكلام سوى ترديد بعض المقاطع الأخيرة من العبارات التي ينطق بها المتحدث.
ألفت ايكو حياة الصمت وإعتادت عدم المبادرة بالكلام لكنها لم تكن معجبة بأحد سوى الشاب الوسيم نركسوس. كانت تعرف أنه لا يستمع لأحاديث الحب فإكتفت بكتمان سر غرامها ومراقبته من بعيد.
وذات يوم خرج نركسوس بصحبة رفاقه للصيد وظهرت امامهم فجأة عدة فرائس.
أخذ نركسوس يطارد فريسته حتى أصابها وغمره الاحساس بالنصر.
وقف ينتظر رفاقه لكن أحداً لم يحضر فإكتشف أنه ضل الطريق.
طال تجوال نركسوس وتعبت قدماه فجلس يستريح على حافة غدير وينادي بأعلى صوته عسى أن يدركه احد منهم.
وهنا نفذ صبر ايكو فأخذت تردد المقاطع الأخيرة من نداءاته فظنّ الأخير أن واحداً من رفاقه يرد عليه. لم تستطع ايكو أن تظل بعيدة فبدأت بالهبوط نحو الغدير واتجهت نحو نركسوس وهي لم تزل تردد المقاطع الأخيرة من نداءاته.
اقتربت منه ولكنه قطب جبينه في كبرياء ونظر اليها بزهو وهو يقول: لا أريدك!
في حين كانت هي تقول مرددة المقطع الأخير من كلامه: أريدك.
وظلت ايكو تردد المقاطع الأخيرة من كلمات نركسوس لكنه إبتعد فجأة عن طريقها بقسوة وغرور.
وعندئذ هوت العاشقة البائسة على الأرض وإرتطم جسمها بالصخرة التي كان يجلس عليها نركسوس ونهضت تجمع أشلاء كرامتها المتناثرة وإنطلقت تعدو بلا هدف بعيداً عنه.
وإزداد زهو نركسوس مع الأيام لكن أفروديت لم تكن تتخلى أبداً عن العاشقين المنبوذين فوعدت إيكو بالإنتقام من نركسوس.
وذات مرة كان نركسوس يمارس هوايته المفضلة حتى تعبت قدماه وإشتد به الظمأ وفجأة وقع بصره على منطقة ضليلة يتوسطها غدير وإتجه بلهفة نحو الماء. كانت مياه الغدير صافية وكانت صفحتها الساكنة مثل مرآة لامعة، وفجأة رأى تحت الماء وجهاً بشرياً رائع الجمال.
تحجرت مقلتاه وظل يحملق في العينين الجميلتين تحت الماء، لاحظ أنهما ايضاً تحملقان في عينيه. فغادر المكان عائداً الى بيته وهو يحس بشيء لا يعرف كنهه.
لم يذق نركسوس طعم النوم في تلك الليلة، غادر فراشه مبكراً على غير عادته، ذهب الى الغدير وأطل بوجهه الجميل على صفحة الماء فرأى الوجه الجميل يطل عليه مرة اخرى.
إنسحب الى الوراء قليلاً وتراجع الوجه تحت الماء في نفس الإتجاه، لوّح بيده الجميلة ورأى تحت الماء يداً تلوح له. أقبل الليل وظلّ نركسوس ساهراً لا يفارق الوجه الجميل خياله. وبقي يتردد على الغدير في الليل والنهار يمد يده محاولاً أن يمسك بها لكن صفحة الماء كانت تهتز لتختفي حسناءه على الفور.
ضاقت به الدنيا وتملكه اليأس وأحس أنها لا تبادله الحب بل تهرب منه ليتحول الى عاشق منبوذ. ولم يغادر نركسوس حافة الغدير حتى ذبل عوده وذوى جماله وأصبح ذليلاً لا تعرف الإبتسامة طريقها الى شفتيه حتى قضى عليه الحزن وفارق الحياة.
لم يكن الوجه الجميل الذي رآه نركسوس إلا صورة وجهه تنعكس على سطح الماء الصافي. وقد أشفقت عليه الآلهة حسب الأسطورة وأعادته الى الحياة لكنه لم يعد بشراً كما كان بل تحول الى زهرة جميلة تسمى زهرة النرجس، مظهرها يعبر عن الحزن وتنمو على ضفاف البحيرات والغدران.
بذلك أصبح نركسوس او الفتى الذي عشق صورته في الماء رمزاً للنرجسية او حب الذات وعشقها بينما كانت إيكو هي التي تردد وحدها الصوت ليتبعثر ويتبدد في الرياح والصحارى والظلام بدون جدوى.

________________