أرنستو شي غيفارا ارستقراطي عايش معاناة الفلاحين والعمال والفقراء وعاين استغلالهم وتحول ثائراً أممياً على الظلم

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

“إنني أحس بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني”.

يعتبر من أبرز الشخصيات السياسية والثورية التي عرفها العالم خلال القرن العشرين وأول رجل حمل خطة جدية لتوحيد بلدان أمريكا اللاتينية بعد الثائر الـﭭـنزويلي سيمون بوليـﭭـار. إنه الثائر الأرجنتيني أرنستو غيفارا.
في حزيران عام 1928 ولد جيفارا في الأرجنتين في أسرة غنية فعاش حياة الرفاهية. أصيب بالربو منذ طفولته ولازمه المرض طوال حياته. درس الطب بجامعة بوينُس آيرس، وقبل تخرجه بسنة، قرر غيفارا وزميل دراسته ألبيرتو غرانادو أن يجولا في عدد من دول أميركا الجنوبية على متن دراجة نارية، وذلك عام ألف وتسع مئة واثنين وخمسين.
شكلت هذه الرحلة محطة أساسية في حياة غيفارا، حيث كانت مغامرة حقيقية، جال فيها الرجلان في كلّ من الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وﭘـيرو وﭘـنما. وخلالها عايش عن قرب معاناة الفلاحين والعمّال الفقراء، وفهم طبيعة الاستغلال الذي تعانيه شعوب هذه البلدان من تسلط واستغلال الأرستقراطيين والرأسماليين. دامت رحلته على الدراجة تسعة أشهر، وفيها تكوّنت قناعات جديدة لدى غيفارا، وتشكّل إحساسه بوحدة أمريكا الجنوبيّة وشعر بالظلم الكبير الواقع من الإمبرياليين على المواطنين اللاتينيين البسطاء. ومع نهاية هذه الرحلة وصل غيفارا إلى استنتاج بأن أمريكا اللاتينية يمكن توحيدها عبر استراتيجية تحررها من أشكال الظلم والاستغلال المختلفة، وأنّه من أجل “مساعدة هؤلاء الناس”، لن يتفرّغ لمهنة الطب، بل سينخرط في العمل السياسي والكفاح الـمُسلّح ضدّ تلك الدول والجهات التي سبّبت الجهل والفقر واستغلت الناس.
أكمل غيفارا دراسته الطب، ثم بدأ رحلة جديدة عام 1953 شملت عدداً من دول أميركا الوسطى كبوليـﭭـيا وﭘـنما وكوستاريكا، ثم انتقل إلى المكسيك البلد التي كانت ملجأً لثوار أمريكا اللاتينيّة. وهناك تعرّف إلى المناضل الكوبي الشاب “فيديل كاسترو”. في تلك الأثناء، كان كاسترو قد حاول قلب نظام الحكم في كوبا ولكن محاولته فشلت، واعتقل وسجن ثم أصدر بيانا ثورياً كان بمثابة برنامج سياسي يبين أهداف الحركة الثورية لكاسترو ورفاقه.
أعجب غيفارا بشخصية كاسترو، والتقاه عام 1955 بعد خروجه من المعتقل. وقد شعر غيفارا أنه وجد القائد الذي كان يبحث عنه. توطدت العلاقة بين الرجلين وأعجب كل منهما بالآخر، وخطّطا معا لتحرير كوبا من حكم الديكتاتور باتيستا الموالي للولايات المتحدة. وبدآ بتنفيذ الخطة عبر قيادتهما ثمانين ثائراً والنزول خلسة في سواحل كوبا، ليبدأ غيفارا إثر ذلك مرحلة الثورة المسلحة حيث أطلق عليه لقب تشي أي الصديق أو الرفيق.
اكتشفت قوات “باتيستا” معاقل الثوار فهاجمتهم ولم يسلم منهم سوى عشرين ثائراً، لجأوا إلى جبال سييرا مايسترا ليعيدوا ترتيب صفوفهم. وهناك نجحوا في اقناع فلاحي المنطقة بالانضمام إلى ثورتهم ومساندتها. ونمت الثورة بسرعة، وخلالها شارك غيفارا في التخطيط للعديد من العمليات الناجحة وقيادتها ميدانياً، وأبرزها معركة سانتا كلارا التي فتحت الطريق لنجاح الثورة الكوبية، حيث كان غيفارا أول من دخل العاصمة الكوبية هافانا مع قواته في كانون الثاني عام 1959 ، بعد فرار باتيستا وسقوط نظامه.
بعد نجاح الثورة منح غيفارا الجنسية الكوبية، ثم عيّن وزيراً للثورة، حيث تولّى العمل لتعريف العالم بأهداف الثورة الكوبية، ومحاولة كسر الحصار الذي بدأت الدول الرأسمالية فرضه على كوبا، بعدما تضررت مصالحها الاحتكارية في هذا البلد. وقد قام غيفارا بالعديد من الزيارات الدولية، أشهرها زيارته مقر الأمم المتحدة في نيويورك وإلقاؤه كلمة على منبرها، حيث لفت الأنظار بمحافظته على زيه العسكري. تولّى غيفارا لاحقاً وزارة الصناعة، ثم رئاسة المصرف الكوبي المركزي، وكان بمثابة الرجل الثاني في الدولة بعد كاسترو، حيث آمن منذ البدء بضرورة اعادة هيكلة النظام الاقتصادي لكوبا وفق الرؤية الإشتراكية، وتأميم الصناعات ووسائل الإنتاج وذلك لسد حاجات كوبا ليمنع خضوعها للهيمنة الإمبريالية.
لم ينسجم غيفارا مع المناصب الحكومية، وبعد استقرار أوضاع الثورة الكوبية، قرر أن يكمل حلمه في تحرير شعوب العالم النامي ومساعدتهم بالتخلص من الحكم الاستعماري والهيمنة الامبريالية. فغادر كوبا تاركاً مناصبه وعائلته متجها الى الكونغو في أفريقيا عام 1965 على رأس مجموعة من عشرات الكوبيين. ولكن تجربته الأفريقية فشلت لأسباب عديدة أبرزها عدم انتمائه للبيئة الأفريقية بكل تفاصيلها وتعقيداتها. وبعد فترة نقاهة صحية، قرر متابعة نشاطه الثوري ولكن في بيئته الأصلية، فظهر فجأة في بوليـﭭـيا، قائداً لحركة ثوريّة.
لم يكن مشروع “تشي” خلق حركة مسلحة بوليفية، بل هدف إلى تحضير الحركات الثوريّة في أمريكا اللاتينية لمجابهة النزعة الأمبرياليّة المستغلة لثروات القارة، وحشد الأنصار من الفلاحين. لكن غيفارا مع مقاتليه العشرين وجد نفسه مجبراً على خوض المعارك مبكراً. وعلى مدى أربعة أشهر، قاد غيفارا حرب عصابات بوجه قوات تفوقه عدداً وعدة في بيئة استوائية ذات مناخ متطرّف، أدّى إلى إصابته بنوبات ربو حادة، أثرت في سرعة حركته ما ساعد على تعقّب حركاته.
في تشرين الاول عام 1067، وبينما كان غيفارا مع مجموعة صغيرة من رفاقه، هاجمتهم فرقة من الجيش البوليفي. قاتل غيفارا ورفاقه خلالها ساعات طويلة، وقد واصل “تشي” قتاله بعد مقتل رفاقه، حتى تعطلت بندقيته فوقع في الأسر. نُقل غيفارا إلى إحدى القرى النائية، ثم أعدم رمياً بالرصاص، وأخفي قبره، كي لا يتحوّل مزارا لثوار العالم.
بعد إعلان مقتله، تحوّل غيفارا إلى رمز للنضال الثوري الذي تأجج خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وتحوّلت صورته الشهيرة مرتدياً (البيريه) وهو ينظر للبعيد، إلى رمز للثورة والتمرّد والحركات الاشتراكية الثورية. وفي نهاية القرن العشرين وبعد إعادة رفاته إلى كوبا، أعيد التذكير بهذه الشخصية، وهي ما زالت رمزاً من رموز الثورة ومواجهة الإمبريالية بمظاهرها وتجلّياتها كلّها.