الرحيل الهادئ…

بقلم : العميد منذر الايوبي*

“ينبغي ان يكون للقانون سلطة عَلى البشر لا ان يكون للبشر سلطة عَلى القانون” عبارة صادرة عن الرحالة الاغريقي (بوزانياس) Pausanias تختصر اداء القيادة السياسية واداراتها الفاسدة المتسلطة في كثير مِن دول العالم .! هذا ما حَاوَلَ الرئيس الاميركي المغادر مرغمآ المكتب البيضاوي مقر حكم الكوكب ممارسته بصورة عكسية في اغلب محطات مدة ولايته عابرآ في اهم الديمقراطيات نظامآ ومؤسسات بنود الدستور وسلطة القانون بما يخدم اهدافه السياسية او يتعارض مع مشيئته، رغباته، مصالحه حتى نزواته أو مزاجيته ..! اما ذروة أدائه المتفلت في نهاية اربع سنوات من الحكم فكانت في مكابرته ورفضه نتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية بعد خسارته امام منافسه الديمقراطي المرشح المنتخب جو بايدن معتبرآ انها “اكبر عملية احتيال في تاريخ امتنا”..
وإذ بلور مسرى الاحداث بعد صدور النتائج النهائية التي اعيد احتساب اصواتها تكرارآ في العديد من الولايات ان اقدام فريقه القانوني على التقدم بعشرات الطعون امام محاكم الولايات ذات الصلاحية خسارة مزدوجة إلا ان ذلك لم يُثنه عن التمادي اذ ما زال دؤوبآ عَلى تحريض جمهوره للتظاهر والاحتجاج محاولآ ممارسة ضغوط لا مجدية للحؤول دون مصادقة الكونغرس عَلى فوز خصمه الرئيس بايدن ؛ اما اخر الدعوات فكانت عَبرَ تغريدة اطلقها الاسبوع الماضي ورد فيها : “يوم الاحد 6 كانون الثاني اراكم في واشنطن لا تفوتوا ذلك” داعيا للتجمع في محاولة اخيرة للضغط على الكونغرس بغية قلب النتيجة لصالحه ..!


تاليآ ؛ في إجراء دستوري شكلي الى حد ما يأتي استكمالآ لعملية الانتخاب دعا نائب الرئيس ترامب مايك بنس الى جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ في السادس من الشهر الاول من العام 2021 بغية اعلان نتائج التصويت وعمليات الفرز لكل ولاية ثم المصادقة عليها وتسمية المرشح جو بايدن رئيسآ جديدآ؛ بالمقابل يعتبر مراقبون ان الرئيس ترامب في انكاره هزيمته ودعوته انصاره للنزول الى شوارع العاصمة واشنطن والتجمع امام الكونغرس على نحو واسع النطاق آخر خطوة فاشلة في عملية غير مسبوقة لتجاوز سلطة القانون ولَي ذراع المؤسسات الدستورية ..!

من جهة اخرى ؛ لم يتوان الرئيس بايدن عن تحذير موظفي وزارة الدفاع “البنتاغون” الموالين للرئيس ترامب من أدائهم الفضائحي ومِن مغبة عرقلة عمل طاقمه المختص للحصول على تفاصيل الانتشار العسكري للجيش الاميركي حول العالم والاحاطة بما يختص ادارات الامن القومي والعطب الذي اصاب دوائرها العملانية اضافة الى مهمة ترتيب عملية انتقال السلطة معتبرا ما يرتكب انعدامآ للمسؤولية محذرا من تعريض الامن القومي للولايات المتحدة للخطر ..! هنا يطرح السؤال الاول ماذا بعد رحيل ترامب ؟ مما لا شك فيه ان الرئيس بايدن سيجد على طاولة مكتبه ملفات هامة منها ما يتعلق بالداخل الاميركي واخرى عَلى الصعيد الخارجي تخص وزارتي الخارجية والدفاع وترتبط حتما بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية عَلى كافة المستويات .

استطرادآ دون الدخول في تفاصيل الملفات المطروحة والقضايا الشائكة التي يتوجب ايجاد الحلول لها كما معالجة آثار اجراءات و قرارات سلفه في كل منها فان قسما كبيرا مِن عناوينها اصبحت معروفة تنم عملية اعادة مراجعتها او العمل بها او تعديلها عن عقلانية عميقة و رؤية استراتيجية ثابتة: الاولوية سَتكون لوضع خطة طواريء مترادفة مع حزمة تشريعية عَلى المستوى الفدرالي لمواجهة وباء كورونا اضافة الى تمرير قانون الاغاثة جراء الجائحة كذلك معالجة ترديات الوضع الاقتصادي، كما ان هنالك توجهآ للسير باصلاحات ضرورية فيما يخص اجهزة الشرطة و انفاذ القانون بعد سلسلة ممارسات عنصرية و عنفية وقعت في عدة مدن ادت الى موجات غضب و اضطرابات انعكست عَلى الاستقرار الامني الاجتماعي؛ حيز هام ايضآ لمعالجة الوضع الداخلي و الانقسام الحاد العامودي للشعب الاميركي في الكثير مِن القضايا ..
اما عَلى الصعيد الدولي فقد اعلن الرئيس بايدن في اجتماع لخبراء السياسة الخارجية و الامن القومي عنوان استراتيجيته: « سنعيد بناء السياسة الخارجية مِن اجل استعادة ثقة العالم » لافتآ الى ان ادارة سلفه (جوفاء) Hollow متحدثآ عن ضرورة تحديث المنظومة الدفاعية لمواجهة التحديات ..

تاليآ القرارات التنفيذية متوقعة للقضايا الخارجية الطارئة و المثيرة اذ سيقارب الرئيس الجديد بداية الملف الايراني باحياء العمل بالاتفاق النووي الموقع عام 2015 مِن مجموعة 5+1 بدون تعديلات تذكر مقابل التزام ايران العودة الى مرحلة ما قبل الغاءه سواء عَلى مستوى التخصيب او التطوير مع الحد مِن انشطتها النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية القاسية عَلى مراحل؛ اعادة الاعتبار و القدرة العملانية لحلف شمال الاطلسي NATO في حماية امن القارة مع ترتيب العلاقات السوية السياسية و الاستراتيجية مع الاتحاد الاوروبي؛ التزام بنود اتفاقية باريس للمناخ UNFCCC و عدم الانسحاب منها. العودة عن التخلي عن منظمة الصحة العالمية WHO التابعة للامم المتحدة مع ايتمار منحها المساعدات المالية؛ العلاقات مع المملكة العربية السعودية و دول الخليج و الحد مِن الدعم الاميركي للحرب مع اليمن، معالجة النفوذ التركي و اطماعه الجيوسياسية المتشعبة مِن حدود اذربيجان الى الشمال الافريقي مرورآ بدول شرق المتوسط؛ الملف الفلسطيني و العودة الجدية للبحث في حل الدولتين مع ضرورة وقف بناء المستوطنات ؛ الغاء قَرار حظر السفر الذي فرضته الادارة السابقة عَلى المسلمين مِن رعايا بعض الدول الاسلامية؛ محاولة رأب الصدع في العلاقات السياسية و الاقتصادية و الاستثمارية مع الصين؛ منح مُستشاريه و اركانه فترة محددة لمعالجة الوضع في الشرق الاوسط عَلى القوس الملتهب طهران- بغداد- دمشق- بيروت ..الخ

في سياق مُتَصل قد سَبَقَ و صرح الرئيس بايدن قبيل انتخابه “ان الرئيس دونالد ترامب وضع الولايات المتحدة في ظلام لفترة طويلة جدآ” .. السؤال او التحدي الابرز الذي سيواجهه في كيفية الخروج الى الضوء هَل سيتمكن مع اركان ادارته مِن السير في خطته لاعادة بناء النظام العالمي و توطيد زعامة اميركا على العالم الحر مع استعادة ثقة دول العالم بقدراتها من الخصم قبل الحليف .؟
مِما لا شك فيه ان الضمانة الاكثر اهمية للتخفيف من ثقل الملفات
و السير بالمعالجات ستكون في سيطرة الحزب ألديمقراطي عَلى الاغلبية في مجلس النواب و مجلس الشيوخ “الكونغرس” معآ دون ذلك فمن المؤكد ان الكثير مِن القضايا ستفرمل اذ ان الرئيس ترامب بالمرصاد و نفوذه لَن ينحسر تأثيره كليآ سواء في السياسة الداخلية
او في قرارات الحزب الجمهوري المنتمي اليه ..!

توازيآ؛ الواضح ان الرئيس بايدن سيتخلى عن النزعة الاحادية التي كان ينتهجها سلفه في السياسة الخارجية فتعهده استعادة دور الولايات المتحدة سيترجم من خلال التزام التحالفات الدولية و الاقليمية و قد سبق و اعلن «إن إدارته سترتقي بأهمية الدبلوماسية، قيادتها تكون بقوة النموذج لا بنموذج القوة» أما قيصر الكرملين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فيعتبر ان لا تغير دراماتيكي ستشهده العلاقات بين واشنطن و موسكو هذا ما اعلن عنه مؤخرا خلال اجتماعه مع مسؤولين في ادارته قائلآ: (بشأن تغير القيادة في الولايات المتحدة
لا اعتقد ان الامر سيكون اكثر صعوبة بالنسبة لنا سيكون كالمعتاد) ..

خِتامَآ ؛ لَن يكون رحيل الرئيس ترامب عن البيت الابيض مدويآ او صاخبآ كما يعتقد كثيرين و لَن تفتح صومعات الصواريخ الباليستية او الجوالة Cruise فسلطة القانون اقوى مِن التسلط عليه ..
على أمل ان يعم السلام ارجاء الكوكب فتتوقف الحروب و تهدأ النزاعات فان البشرية مهددة اليوم في مصيرها من مخلوقات فيروسية ميكروية الصغر Microbiota وقف اساطين العلم و العلماء عن حل الغاز شيفرتها و في حين لجأت شعوب العالم المتحضر و الاغنى الى ابحاث و توصلت الى لقاحات غالية الثمن غثة المفعول فان اممآ اخرى فقيرة او يائسة لجأت للصلاة متسلحة بالايمان مستمطرة الرحمة و الشفاء للجميع عسى ان تستجيب الدعوات ..

بيروت في 01.01.2021

_____________

بيروت في  01.01. 2021