أميركا وإيران والحرب …

بقلم : توفيق شومان*

يسأل العلامة ول ديورانت كاتب ” قصة الحضارة ” و” قصة الفلسفة ” : من هي أميركا ؟
يسأل ديورانت ويجيب : أميركا هي الحصان ورجل الأعمال .
الحصان في المفهوم العام هو رمز الفروسية ، إلا انه في المفهوم الأميركي وسيلة ” الكاوبوي ” ، ولا داعي لتفصيل رمزية رجل الأعمال .
جاء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ك ” رجل أعمال “، يمتهن عقد الصفقات وإجادتها مثلما قال وأسهب في حملته الإنتخابية وبعد تنصيبه رئيسا .
هذا يعيد الأمور إلى ” فلسفة وصول ” ترامب إلى رأس الإدارة الأميركية وعلاقتها بصلب ” الفلسفة العملية “، او النفعية أو البراغماتية ، وهي فلسفة أميركية خالصة ومحضة ، وإن نشأ بعض جذورها في القارة الأوروبية.
يكتب مؤسس الفلسفة البراغماتية الأميركي تشارلز بيرس (1839ـ1914) مقالة في عام 1878 تحت عنوان ” كيف نجعل أفكارنا واضحة ؟ ” ، ويذهب إلى إجابة مضمونها بأن الفكرة الواضحة هي الفكرة القابلة للتطبيق والمعبرة عن آثار حسية .
بعد تشارلز بيرس، يأتي مواطنه وليم جيمس ( 1842ـ 1910) ليقول إن معنى الحقيقة في قيمتها العملية ، وأي بحث عن معنى آخر ضرب من العبث ، وأما الأميركي الآخر جون ديوي (1859ـ1952) الذي يكتمل به الثلاثي الفلسفي البراغماتي فيرى أن الأفكار تجارب ، وأي فكرة لا قيمة لها اذا تجردت من نتائجها العملية.
ما علاقة الفلسفة بالحرب ؟
علاقة الفلسفة بالحرب ، أن الحديث يدور حول فلسفة أميركية نفعية وحول حرب يمكن أن تكون نفعية ويمكن ألا تكون ، وبمعنى آخر ، يدور الحديث عن الحرب كفعل أو فكرة تحقق الغاية النفعية للولايات المتحدة أو لا تحققها .
والسؤال المطروح حيال ذلك: ما الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة ؟
هذا يفرض العودة إلى عقارب الحروب في القرن العشرين وفي أوراقها التالي :
شغلت الولايات المتحدة مقاعد المتفرجين في بداية الحرب العالمية الأولى ، فمشهد الحرب ومسرحها كان في أوروبا ، وفيما ذهب الأميركيون إلى ما يمكن تسميته ب ” النفعية العليا ” خلال السنوات الثلاث الأولى للحرب وعملوا على تزويد الأوروبيين المتقاتلين بالسلاح والملابس والدواء والغذاء ، مما أدى إلى نهضة اقتصادية أميركية لاسابق لها ، وهذا ما أثار حفيظة ألمانيا ، فراحت تهاجم السفن التجارية الأميركية في عام 1917 وتحث المكسيك للدخول في الحرب واعدة إياها بإعادة ولايات أميركية جنوبية إلى سيادتها .
كان الأوروبيون يتحاربون والأميركيون يتاجرون في الحرب ، ودخل الأميركيون الحرب في لحظاتها الأخيرة.
لم يختلف الأمر كثيرا في الحرب العالمية الثانية ، فمصانع السلاح والألبسة والدواء والغذاء الأميركية ، ارتفع انتاجها إلى مستويات أدهشت الأميركيين أنفسهم ، إذ باتوا المصدرين الآوائل إلى أطراف الحرب ، فتوسع رأس المال وتضخمت المصانع .
هنا جاء الهجوم الياباني على ” بيرل هاربور ” في عام 1941، اي بعد ثلاث سنوات من اشتعال الحرب العالمية الثانية ، وكان من شأن هذا الهجوم أن يغير مجرى الحرب .
مرة ثانية :
كان العالم ، شرقا وغربا ، يتقاتل في الحرب العالمية الثانية وكان الأميركيون يتاجرون في الحرب ، ينتفعون منها يكنزون الأرباح والذهب والفضة .
انتهت الحرب العالمية الثانية وقرعت الحرب الكورية (1950ـ1953) طبولها ، وهي حرب أميركية ـ صينية بالدرجة الأولى ، وخلاصة الحرب يفسرها أحد أهم الخبراء الأميركيين في الشؤون الصينية ،ه، ج، كريل ، في كتابه المعروف ” الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماو ” حيث يقول : ” كان ثمة تصورات خاطئة لدى الخبراء العسكريين في شؤون الشرق الأقصى ، فقد كانوا يتصورون أن الصيني لا يحارب “.
هذا خطأ في التصورات ربما يضاهي خطأ ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ويوازي خطأ اليابان في الحرب العالمية الثانية ، ويساوي خطأ الزعيم النازي ادولف هتلر حين هاجم الإتحاد السوفياتي في الحرب الثانية أيضا ، فانقلب ظهر المجن عليه ، ويوازن خطأ نابوليون بونابرت حين غزا روسيا في عام 1812 ، فأصابه ما أصاب براقش ، فجنى على نفسه وأسدل الستار المأساوي على حروب التوسع النابوليونية .
خطأ في التصورات قد يؤدي الى حرب ، ذاك موجز الحرب الكورية ، ولكن ماذا عن حرب فيتنام؟
هي ” نظرية الدومينو” التي كشف عنها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في عام 1954، وموجزها يكمن في التصور الأميركي القائل بأن سقوط فيتنام في قبضة الشيوعية ، سيؤدي إلى قيام ” أنظمة رفيقة ” في كمبوديا ولاوس وتايلند والفيلبين وأندونيسيا واليابان وأوستراليا.
هذه النظرية ما فتئت محل نقاش حار في الولايات المتحدة وعما إذا كات مدرجة في سياق التصورات والحسابات الخاطئة أم أنها كانت أمرا محتوما لا فرار منه ، خصوصا بعد استعار المواجهة مع الرايات الحمراء التي طرقت أبواب القارة الأميركية مع فيديل كاسترو وتشي غيفارا ، وما نجم عن ذلك ، من تداعيات كان في طليعتها ” غزوة خليج الخنازير ” في عام 1961 و ” أزمة الصواريخ الكوبية ” عام 1962.
الجدل حول ” نظرية الدومينو ” ما زال قائما والإجابة غير قاطعة لغاية الآن ، ولكن ماذا عن الحروب الأميركية الأخرى في آواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحالي ؟.
بعد حرب فيتنام ، انخرطت الولايات المتحدة في ” حروب الوكالة ” ، والتي تعني الإرتكاز على ” حلفاء محليين ” لمواجهة الخصوم أو الأعداء ، وهكذا كان أمرها مع حرب أفغانستان الأولى إثر الغزو السوفياتي في عام 1979، فراحت تقاتل ” ب ” غيرها ” ، وهي الحال نفسها في افريقيا وأميركا اللاتينية.
المشهد عينه ، سوف يبرز في حروب أميركية لاحقة ، فخلال حرب افغانستان الثانية في عام 2001، كانت ركيزة الحرب الأميركية قائمة على ” الحلفاء المحليين ” ، وهذا ينطبق على العراق في عام 2003، وتدخلها في ليبيا عام 2011، مع فارق بين الحربين الأفغانية والعراقية وبين تدخلها في ليبيا ، أن الولايات المتحدة اعتمدت في افغانستان والعراق مبدأ ” القيادة من الأمام ” ، وفي ليبيا ” القيادة من الخلف “.
ثمة دروس فائقة الأهمية في النماذج الثلاثة السابقة الذكر ، خلاصتها وإجمالها في التالي :
ـ خاضت الولايات المتحدة حربها الأفغانية بوجه دولة ممزقة .
ـ خاضت الولايات المتحدة حربها العراقية بوجه دولة محطمة.
ـ خاضت الولايات المتحدة تدخلها في ليبيا بوجه دولة مشرذمة.
عمليا ، كان ” العدو ضعيفا “، وكأن الولايات المتحدة كانت تبحث عن حرب مع الفراغ ، ولذلك كان إسقاط الأنظمة القائمة سهلا .
الحرب السهلة لأجل النصر السهل
ذاك عنوان قد يكون مناسبا لحروب الولايات المتحدة في دول الإقليم ، و بصرف النظر عن التعقيدات والمآلات التي تلت مقدمات تلك الحروب ومفاصلها الأولى ، فما بعد المقدمات والمفاصل حديث آخر .
هل يمكن الخروج بقراءة عامة لحروب الولايات المتحدة ؟
لنلاحظ التالي :
ـ في الحربين العالميتين الأولى والثانية لجأت الولايات المتحدة إلى ” مبدأ الإنتظار “، ولم تدخل الحربين إلا بعدما تهالك وتآكل المتحاربون ، وهو مبدأ يشكل ذروة النفعية .
ـ في الحرب الكورية ، تورط الأميركيون في التصورات الخاطئة.
ـ حول الحرب الفيتنامية مازال الأميركيون يتجادلون حول الخطأ والضرورة.
ـ في حروب افغانستان والعراق وليبيا اعتمد الأميركيون مبدأ الإستناد إلى الركيزة المحلية .
ـ في حروب افغانستان والعراق وليبيا استغل الأميركيون واقع الأنظمة الهشة.
ـ في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي حرب أفغانستان الثانية ، كانت مبررات الحروب الأميركية : قصف الغواصات الألمانية للسفن التجارية الأميركية ـ الهجوم الياباني على قاعدة ” بيرل هاربور ” العسكرية ـ تفجيرات تنظيم ” القاعدة ” في واشنطن ونيويورك ، أي وقوع الولايات المتحدة تحت مرمى الإستهداف المباشر .
ـ في حرب العراق 1991، اعتبر الأميركيون احتلال الكويت عبثا بالجغرفيا السياسية وخرائطها وتقسيماتها.
أي حالة تنطبق على ايران ؟ ولا حالة ، ولا نفعية ولا منفعة.
وفي تفصيل هذه ” الحالات ” ، يمكن القول إن الأميركيين لا يمكنهم اعتماد ” مبدأ الإنتظار ” ليدخلوا الحرب مع ايران في لحظاتها الأخيرة كما في الحربين الأولى والثانية ، فإيران ليست في حالة حرب مع أي دولة ، كما لا يمكن للأميركيين خوض حرب مع إيران بالوكالة ، فلا وجود لقوى محلية إيرانية تشكل ركيزة للحرب ، ولا يوجد قوى اقليمية يمكن أن تشكل الركيزة المفقودة ، وفوق ذلك فإيران دولة متماسكة وليست دولة هشة على ما كانت عليه ” حالات ” افغانستان والعراق وليبيا .
يبقى التصور الخاطىء هل يمكن ان يخطىء الأميركيون بتصوراتهم ؟
هذا احتمال ضعيف ، بل هو أضعف الإحتمالات ، وفي القياس النفعي يفرض السؤال نفسه : ماذا يجني دونالد ترامب من الحرب مع ايران ؟
لا شيء … إذا : لماذا الحرب والنتائج غير مضمونة ؟.
هل ثمة سؤال آخر ؟
………………………………………………………………………

*كاتب وباحث ومحلل سياسي