بانوراما …

 

بقلم ألعميد منذر ألأيوبي.

منذ الحرب الخاطفة العربية الاسرائيلية عام 1976 او ما عرف بحرب الايام الستة، و على مر سنوات الصراع العسكري بين العدو الاسرائيلي و الدول العربية، كان عبء المواجهة المباشرة الذي فرضته الجغرافيا ملقى على عاتق ما كان يعرف ب “دول الطوق”، Arab Rings Countries المصطلح الذي اطلقه في ستينيات القرن الماضي الرئيس جمال عبد الناصر على الدول التي تربطها حدود مشتركة مع فلسطين المحتلة “مصر، سوريا، الاردن، لبنان”، و رغم نجاحات نسبية في بعض المواجهات، كحرب تشرين 1973 “حرب يوم الغفران” و اخفاقات في معظم الاحيان تسببت بخسارة أراضٍ إضافية “الجولان، الضفة الغربية…”، إلا ان قيادات العدو و اركانه وجدوا ان الدخول في اية حرب مع دول المواجهة في حال وحدت الجبهات سيزعزع الكَيان و سيتسبب بخسائر جسيمة اضافة الى انسحابات قسرية من أراضٍ سبق و احتلت، من هذا المنطلق اعتمدت “إستراتيجية تفكيك الجبهات” Battlefront Dismantel Strategy و التي هي ببساطة ما يعرف بسياسة “فرق تسُد”، معتمدة طرقآ ديبلوماسيةً و سياسية في خلفياتها ضغوطات متعددة ترغيبآ او ترهيبآ، فكانت اولى الخطوات لوضعها موضع التنفيذ اتفاقية كامب دايفيد عام 1978، التي كرست واقع صلح منفرد مع الكيان المحتل، تلاها عام 1994 معاهدة السلام الاردنية – الاسرائيلية “معاهدة وادي عربة”، ثم مفاوضات السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية و اتفاقية اوسلو 1993 التي تضمنت اعلان مباديء لاقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية.

توازيآ؛ و دون الدخول في تفاصيل مرحلة الاجتياح الاسرائيلي الدموي للبنان عام 1982 و خروج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، و مِن ثُم اتفاق الطائف و الوجود السوري في لُبنان او ما عرف بنظام “الوصاية”، كان الحفاظ عَلى هدوء الجبهة السورية سمة بارزة، في حين تمكنت المقاومة اللبنانية و الاسلامية على وقعِ ضرباتها مِن فرض انسحاب مذل لجيش العدو عام 2000، استطرادآ و مع تنامي المقاومة الاسلامية او حزب الله عدة و عديدآ اتت حرب تموز 2006 رغم الخسائر الهائلة التي مني بها لبنان لتفرض معادلة ردع متوازن الى حد بعيد بالتزامن مع صدور القرار 1701 عن مجلس الامن الدولي و انتشار قوات الطواريء الدولية جنوب خط نهر الليطاني. تاليآ لم يبق من دول الطوق سوى جزء يتمثل بجبهة الجنوب اللبناني “بطول 120 km” الوحيدة القادرة على مواجهة العدو من خلال الترسانة الصاروخية الدقيقة التصويب و الاصابة التي امتلكها حزب الله. و في مراجعة تقييمية سريعة، تبين ان الاستراتيجية
و العقيدة العسكرية المعتمدة من قبل قيادة العدو تمكنت من تحييد دول المواجهة العربية حيث الاستراتيجيات المتعددة و الغير موحدة التي تنتهجها كل دولة على حدة، مما اظهر ان الاداء العسكري العربي في جميع جولات الصراع مترديآ الى درجة اثارث علامات استفهام مزمنة ليس بعيدآ عن طرحها الخلافات العربية-العربية و حال التشرذم و التخوين ..!

من جهة اخرى؛ شكل النفوذ الايراني المتمدد في دول الاقليم و المتعدد الاذرع “حزب الله، الحوثيين، الحشد الشعبي، الخ..” هاجسآ وجوديآ للانظمة العربية، إذ استدارت مقولة “صراع وجود لا صراع حدود”
من اسرائيل نحو ايران لا سيما بعد تدخل حزب الله في ميادين الصراع العسكري خارج لبنان مترجمةً بسياسة التطبيع في مجالات مختلفة لا سيما الامنية منها.
انقلبت البيئة الاستراتيجية في الاقليم خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة الاميركية من الاتفاق النووي مع ايران، و فرض حصار اقتصادي و مالي مع عقوبات شملت اشخاصآ و كيانات، لم يسلم لبنان منها مما ادى الى انهيار متعدد الاوجه لمؤسسات الدولة و اداراتها، ليس اقلها السطو على اموال المودعين، و انتشار ثقافة الفساد، نتيجة اداء مصلحي قاصر لمسؤولين و سياسيين بعيدآ عن كل اخلاص او تجرد، مع اصطفافات طائفية و مذهبية لم ينأى فريق سياسي عنها او يتعفف.

سقطت كل القيم الاساسية في السياسة و الادارة و الاجتماع لا بل اصبحت مدار مساومة كل ينهش من جثة الوطن ما استطاع اليه سبيلآ. إذ لم يكن يتخيل اللبنانيين يومآ انهم سيصلون الى هذه المرحلة من الفقر
و العوز، و الاخطر عدم الايمان بمستقبل الوطن احد حوافز الهجرة المستفحلة للكادرات العلمية او الطبية
و الشبابية. تاليآ؛ وسط هذا الكم من التحديات بدت معجزة تشكيل حكومة اية حكومة امرا مستحيلآ رغم ان تشكيلها بات أمرآ لا قيمة له سواءً فعليآ او معنويآ كناية عن جرعة اوكسيجين اخيرة قد تؤخر موعد الوفاة، مع محاولة تسول لديون جديدة او للحصول على لقاحات تقلص اعداد الوفيات و الاصابات بالفيروس القاتل.
في سياق متصل؛ بدت المبادرة الفرنسية الانقاذية سرابآ، بعد تشبث زعماء السياسة و قادة الاحزاب
و الحركات و التيارات المتنوعة المصالح لا الايديولوجيا بطروحاتها او رؤاها، على خلفية ارتباطات خارجية او رهانات داخلية بعيدة عن مباديء الوطنية الجامعة. اما الدول العربية الشقيقة و الخليجية تحديدآ فقد انكفأت عن اية مساعدة معتادة او انعدمت، في اسقاطات حتمية لضرورات المواجهة الاستراتيجية مع المحور الايراني الممانع.
إستطرادآ؛ طفا على سطح الوضع المتردي سياسيآ و اقتصاديآ قضية ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة بضغط و رعاية اميركية حريصة على مصلحة العدو في الاستخراج و الاستثمار، و بدل ان يكون المفاوض اللبناني العسكري مدعومآ برؤية سياسية استراتيجية ذكية و كفوءة تفرض انهاء التفاوض و البدء باستخراج الطاقة الغازية لازدواجية المصلحة بدا الخلاف الداخلي كالعادة احد اسباب الضعف في جولات المفاوضات التي علقت لاحقآ.

في تخبط واضح؛ يتلقى لبنان الضربات من الخصوم و الاعداء و الاصدقاء في العنوان العريض لحالته المأساوية انه “دولة فاشلة”، بالتوازي بدا الجيش اللبناني الصغير و الذكي قادر على المبادرة و الاستجابة لمواجهة الاخطار الامنية و المنظمات الارهابية و الاصولية المتطرفة مع تطوير كفاءات وحداته القتالية و في مهام حفظ الامن و النظام، في ظل ضعف امكانات مالية لا توازي حفلات اعراس ابناء السياسيين، لكن كل ذلك لم يعفه من الاستهداف و التشكيك بدوره الوطني و تبعيته في التسليح و التدريب بهدف خلق جو من عدم اليقين يعزز الشك في ولاء قياداته و ضباطه دون خجل او حياء ..!

في قضية النازحين السوريين؛ تتنازع الاطراف اللبنانية رغبات الخارج الاوروبي و العربي لإبقائها
ورقة مساومة على طاولة الحل الاقليمي للازمة السورية، و اذا كانت المصلحة الوطنية بعد اعوام
على نزوحهم تقتضي وضع خطة مرحلية لعودتهم الى بلادهم بالتنسيق مع الجانب الروسي، فإن الوقائع تثبت ان ما يطرح ليس سوى مسألة افتراضية تستهلك أوراقًا بالحبر السري .

في قاعدة حميميم العسكرية الجوية الروسية في اللاذقية – سوري، وفق ما سرب ثم تناقلته بعض وسائل الاعلام، عقد اواخر شهر كانون الاول من العام الماضي اجتماع عسكري امني سوري- اسرائيلي باشراف قائد القوات الروسية في سوريا الجنرال الكسندر تشايكوف، ضم مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك والمستشار الأمني في قصر المهاجرين بسام حسن، ومن الجانب الإسرائيلي غادي آيزنكوت رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، وآري بن ميناش الجنرال السابق في «شعبة الاستخبارات العسكرية» و الاخير ايراني الاصل من مواليد طهران 1951. كان واضحآ ان البند الاهم و الاساسي يتلخص بمطالبة اسرائيل بإحتواء إيران والحيلولة دون نقلها الأسلحة لحزب الله ثم خروج المستشارين العسكريين الايرانيين و مجموعات الحرس الثوري و مقاتلي حزب الله من سوريا، بالتزامن مع اعادة قوات النظام إنتشارها في جنوب سوريا و الحدود مع الجولان المحتل مع قوة الامم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك UNDOF و بمشاركة قوات من الشرطة العسكرية الروسية ، بما يصب ايضآ في نفس الاستراتيجية العسكرية “تفكيك الجبهة”، اما البنود الاخرى التي ادرجها الجنرال آيزكوت فهوامش مثل هيكلة المؤسسة العسكرية و اعادة الضباط المنشقين الخ… و بصرف النظر عن حقيقة حصول الاجتماع ام عدمه، الا ان موسكو سبق و لمحت الى ضرورة بناء علاقة مباشرة بين دمشق و تل ابيب بما يساعد في عودة النظام الى المنظومة الدولية مع رفع العقوبات المفروضة لاحقآ.

في الحافزية ؛ يعتبر نجاح الاجتماع يصب في خانة دعم مصالح روسيا و توجهات مشروعها السياسي في سوريا ما يسمح لها بالتحرر الى حد ما من المشاركة الايرانية ميدانيآ مع ضمان مصالح طهران
الجيو سياسية في الاقليم. ثانيآ في حال ترتيب الاتفاق فقد يتضمن اعادة القوات التركية انتشارها على الحدود الشمالية و الشمالية الشرقية لسوريا بما يعيد سلطة الدولة على مدينة ادلب و شرق الفرات كما
قد يساعد في عودة المناطق الكردية حيث انتشار قوات “قسد” سوريا الديمقراطية المدعومة من القوات الاميركية الى سيادة الدولة، لكن هذا المسار من الطوباوية بمكان، اذ لا يمكن ان يتحقق دون دفع اسرائيلي كما قد يعتبر الخطوة الاولى في ترتيبات الحل للازمة السورية.

من جهة اخرى؛ تضع ايران “اجتماع حميميم” تحت مجهر جس النبض في اعتلام لحجم التنسيق الروسي مع الكيان الصهيوني. كما تعتبر ان تموضع قواتها في سوريا امر استراتيجي و جيوسياسي لا يمكن ان يقرش الا على طاولة المفاوضات وفق تدرج اولويات ملفاتها و بالمفرق، و على رأسها حاليآ عودة الادارة الاميركية الجديدة الى الاتفاق النووي 5+1 مع رفع العقوبات و الحصار المفروض عليها، و هي رغم تعرض مواقع قواتها في سوريا بدعم اميركي و غض نظر روسي لاعنف الغارات الجوية الاسرائيلية باقية على سياسة “تفكيك الملفات” بوجه “تفكيك الجبهات”.
كما ان طهران تدرك تمامآ ان تل ابيب تفضل سيطرة و بقاء نظام الرئيس بشار الاسد المدعوم منها بدل تقسيم سوريا ولايات تحكمها ميليشيات اسلامية وارهابية متطرفة. هذا ما اعلن عنه “موشي بن يعلون” Moshe Ya’alon وزير الدفاع الإسرائيلي السابق : «نحن غير معنيين بمن سيفوز بالسيطرة على سوريا، سواء الأسد أو غيره، فلن ندخل في أي نقاش حول هذا الموضوع مطلقآ» اذ كان ولا يزال نطاق النفوذ الإيراني في سوريا أحد المخاوف الرئيسية لإسرائيل. اما وزير الدفاع الحالي “نفتالي بينيت” فيؤكد «مواصلة العمليات الجوية في سوريا حتى تخرج القوات الايرانية منها».
إذن يشكل اجتماع “حميميم” بداية مسار محفوف بالالغام خطواته الزمنية قد تطول او تقصر وفقآ لمستجدات الاحداث، ليس من اقل مؤشرات ولوجه وقف الغارات الجوية على المواقع الايرانية في العمق السوري. توازيآ : نقلت القناة 11 العبرية عن مصادر عسكرية “ان طهران بدأت للمرة الاولى منذ دخولها سوريا بتقليص قواتها اخلاء بعض قواعدها هناك”.

على صعيد آخر؛ جرى يوم امس تنصيب الرئيس الاميركي الجديد جو بايدن و أداءه قسم اليمين في احتفالية غير معهودة، و في ظل حراب 25000 جندي من قوات الشرطة و الحرس الوطني كما زرعت الاعلام الاميركية في الحديقة المواجهة لمبنى “الكابيتول هيل” الكونغرس بدل الحضور الشعبي. اما الاهم فهو توطيد اركان احدى اعرق الديمقراطيات في العالم بوجه من حاول تشويهها في صبيانية مبتذلة و غير مسبوقة. لكن ما تلى دخول الرئيس بايدن المكتب البيضاوي فظهر بعودة الاميركيين الى حياتهم الطبيعية مع تتبع خطوات معالجة وباء COVID 19. استطرادآ شد الاهتمام صباح اليوم عودة بورصة Wall Street لنشاطها في العمليات المالية من ارتفاع اسعار الاسهم او انخفاضها، في حين المؤسف المحزن ان هذا الوطن الصغير اصبح حلبة يتصارع على خشبتها المسؤولين على المناصب و المصالح في ظل ازمة معيشية خانقة، مع مجاعة تطرق الابواب و فقر مستفحل دون وازع او ضمير.

خِتامَآ ؛ بالرغم مِن كل شيء.. جميل ما رأيناه في واشنطن على الشاشات و مؤسف مبكي ما نراه و نسمعه على شاشاتنا كل يوم فهل من يعتبر ..! اعتادت هذه الامة رغم امكاناتها الهائلة الهزائم ..!
اما لُبنان اجمل و اعظم الاوطان طبيعة و حضارة فقد غُلِبَ عَلى امره فرض عَلَيه و عَلى شعبه مسؤولين
و أوليغارش في فساد مستشري هتكوا دستور الجمهورية و حرفوا الديمقراطية ثم. قصموا ظهور الناس
في مالهم و حياتهم و مآلهم و احلامهم .. عَلى أمَل ان يصح ما قاله المسرحي و الكاتب البريطاني بيتر أوستينوف : “الفساد وسيلة الطبيعة لإعادة تجديد إيماننا بالديمقراطية”..

———–

بيروت في 21.01.21

d