يوم قال معروف سعد: رجل الأمن لا يُطلق النار على المتظاهرين الجوعى…

خاص “أخبار الدنيا”

 

بقلم: العميد انور يحيى*

الأستاذ معروف سعد المصري، تولد 1910 في صيدا، مارس مهنة التعليم في فلسطين في العقد الرابع من القرن العشرين، وشارك بالتظاهرات ضد سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، والعمل المنظم للأنتداب لتنفيذ وعد بلفور،الذي قضى بأعطاء اليهود قسم من أراضي فلسطين.سُجن أكثر من مرة، وعاد الى موطنه في صيدا سنة 1944 حيث أنتسب الى مديرية الشرطة اللبنانية، ،وما لبث أن فُصل لتأسيس الأمن العام 1945، بإدارة المفوض أدوار أبو جودة، مؤسس الأمن العام اللبناني ، ورئيس الشرطة القضائية سابقا.

لم تطُل خدمته في الأمن العام، لعدم إنسجامه مع المدير ، فعاد الى مصلحة الشرطة والأمن بإدارة المفوض النشيط عارف إبراهيم، رئيس القسم العدلي السابق (الشرطة القضائية لاحقا) ما بين 1921-1926.

كان المفوض معروف سعد ذو حماس قومي عربي، وشارك الملازم الأول محمد زغيب، من ضباط الجيش اللبناني الشجعان، في 15 أيار 1948، يوم المالكية، حيث قاد  هذا الضابط الممتلىء نخوة وعروبة وشجاعة سرية من الجيش والمتطوعين لقتال عصابات “الهاغانا” الصهيونية ، وهي القوة اليهودية المكلفة بطرد العرب من منازلهم  وتسليمها لليهود ، وقد أستشهد بعد أيام قليلة من إصابته برصاص “الهاغانا” .

غالبا ما كان المفوض سعد يتعاطف إنسانيا مع مطالب الناس، ويتصدق من راتبه لإعطا سيدة فقيرة تطلب إعانة لشراء الخبز والطعام لإولادها، ويتفاعل مع حاجات السكان، لا سيما صيادي الأسماك العاملين في ميناء صيداء ، وهو منهم وظلوا أوفياء له، وقد إستشهد أثناء قيادته لمظاهرة هؤلاء الصيادين يوم6 اذار 1975 في صيدا بعد ان كان قد أضحى نائبا في البرلمان اللبناني ، برصاص لم يتضح من أطلقه بوجه قادة المسيرة من ساحة النجمة الى سرايا المدينة، ومنها إنطلقت شرارة أحداث 1975،لا سيما بعد ان أضيف إليها حادث بوسطة عين الرمانة يوم 13نيسان 1975.

وبالعودة الى صيف 1946، حيث كثرت التظاهرات من المواطنين بوجه الحكومة التي كان يراسها الأستاذ سامي الصلح، الذي كان يلقب ب”أبو الفقراء” ، وكان الناس يطالبون بالخبز والطحين المفقود بسبب إحتكار بعض التجار مما تسبب بأزمة كبيرة في المجتمع اللبناني.

يومها إنطلقت التظاهرة الشعبية من ساحة الشهداء نحو السراي الكبيرة ، مقر رئاسة الحكومة، وترأس المفوض معروف سعد،من مديرية البوليس، يعاونه المعاون المفوض  فهد فرحات، قوة بوليسية تضم حوالي الأربعين شرطيا مزودين بالبنادق والخوذ الحديدية على الراس، وكانت الأوامر منع المتظاهرين من أقتحام السرايا، حيث يقف على شرفتها “أبو الفقراء” يسمع ضجيج المتظاهرين وصراخهم والمطالبن بلقمة العيش وتامين الطحين المفقود وبات السكان يعانون الجوع.

لم تكن صهاريج المياه أو القنابل المسيلة للدموع متوفرة في ذلك الحين ، وأضحى المتظاهرين بمواجهة الشرطة التي تتلقى الحجارة والزجاجات الفارغة والقطع الحديدية من المتظاهرين، وكان قرار المفوض الى معاونه: إياكم وأطلاق النار.أصمدوا في مواقعكم.

أصيب أربعة من رجال الشرطة بجروح متعددة ، ونقلوا الى المستشفى، فيما أستمر المفوض على رأس القوة سدا بوجه المتظاهرين لمنعهم من أقتحام السرايا بشكل حاسم!. 

كان يُخشى أن يتمكن المتظاهرون من إختراق حاجز القوى الأمنية ويدخلون السرايا وينالون من رئيس الوزراء!

وكان أبو الفقراء يراقب ما يجري من العلو وشاهد حراجة موقف القوى الأمنية بالتعاطي مع عنف المتظاهرين المصممين على إقتحام السرايا. أرسل أحد كبار مساعديه وقال للمفوض معروف سعد: دولتو يراكم من شرفة السرايا، ولا مانع من استخدام وسائل ولو بالعنف والنار لتشتيت التظاهرة الخطرة!

فرد المفوض على رسول دولة رئيس الحكومة:

قل لدولتو: الشرطة ما بتطلق النار على جوعانين..خلي دولتو ينزل من فوق ويحكي معهم ويعدهم بحل أزمة الرغيف والخبز! علاج الأزمة ليس من فوق! بل مباشرة مع الناس!

كان بعض المتظاهرين يسمعون الحديث بين المفوض معروف سعد ومبعوث دولة الرئيس، فأيدوا كلام المفوض، ولاقى ذلك الأستحسان لديهم وتعالت الصرخات:

يعيش معروف سعد ، يعيش إبن الشعب!

هدأ غضب المتظاهرين وقد وعدهم المفوض بنقل معاناتهم إلى أعلى المراجع، وأتبت معروف أنه زعيم شعبي أكثر منه مفوضا أنضابطيا في الشرطة المكلفة بحفظ الأمن وضمان السلامة العامة، وحماية المؤسسات والمواقع الحكومية بأي وسيلة كانت! تفوقت حكمته ووطنيته على الأنضباط والقوة العسكرية وكسِبَ الرهان!

تفرقت التظاهرة بهدوء وأُعجب الرئيس سامي الصلح بحنكة وذكاء المفوض الذي تمكن من تفريق التظاهرة الخطرة بهدوء ، والتي هددت أمن من في السرايا الحكومية، فأستدعاه الى مكتبه وهنأه على هذا الموقف الوطني لأمتصاص نقمة المتظاهرين بوجه الحكومة ورئيسها وأستدراك التصرف المناسب لبسط الأمن بغير العنف وتأكيد حقوق الناس واستماع الحاكم الى مطالبهم المحقة!.

أصدر مدير الشرطة تهنئة تناولت المفوض ومساعده وظل رجال الشرطة لزمن طويل يتذكرون قول معروف سعد لدولة الرئيس:

الشرطة لا تطلق النار على الجوعانين؟

أنه معروف سعد الإنساني ، والعميق الثقّة بنفسه لمجابهة أخطر المواقف بالتبصر وكسب ثقة الناس، والذي أكد أن دور أدوات السلطة، ومنها الشرطة، حماية الناس وليس قتلهم.

————————————

*القائد السابق للشرطة القضائية في لبنان.