يحاربون التقسيم بالتفتيت !!

بقلم : توفيق شومان*

منذ حين ، يتحدث العراقيون والليبيون واليمنيون واللبنانيون والسوريون عن تقسيم أقطارهم ، وغالبا ، بل دائما ، ما يصار إلى تصويب حراب اتهامات التقسيم نحو سياسات الدول الكبرى ، والغربية منها بالذات .
والتقسيم ، وفقا للخطابات السائدة ، يفترض تجزئة ما هو قائم من دول و أقطارعربية ، واختلاق وابتداع دويلات جديدة ، فيغدو العراق عراقات ، واليمن يمنات ، وليبيا ليبات أو ليبيات ، ولبنان لبنانات وسوريا سوريات ، وعلى هذه الحال ، يتحول الوضع القائم إلى واقع مقبل ، بحيث تكون الجغرافيا جسدا لمبضع التقسيم أو مقصه ، وبصورة تفسد فيها روح المواطنة والإلفة بين أبناء الدول القائمة ، و تسود روح الشقاق والفراق بين الدويلات الناشئة .
ومعنى القول أيضا ، إن التقسيم الجغرافي مأرب السياسات الخارجية واستراتيجيتها الماضية والحالية والبعيدة ، وكل ذلك بهدف التجزئة كغرض ظاهر، والسيطرة والإحتلال كغاية في المضمون .
ليس من الصواب ، المجادلة حول سياسات الدول الكبرى ، فكل منها يسعى إلى مصالحه وإلى توسيع دوائر السيطرة والهيمنة ، ولكن من الصواب الجدال حول أيهما أكثر خطورة : التقسيم الجغرافي أم التفتيت القائم على إعادة إحياء روح القبائل وإنعاش رايات الطوائف؟.
ذاك السؤال يعيد النقاش إلى عتبة تأسيس وقيام الدولة ( الدول ) العربية الراهنة ، وهي قامت بالفعل والمشيئة الغربيتين ، فحدود الدول القائمة هي خطوط ورسوم جغرافية غربية ، ولكن الأنظمة السياسية التي أعقبت قيام تلك الدول ، وبصرف النظر عن محاسبتها ومساءلتها السياسية في جوانب عدة ، إلا أن أغلبها ذهب إلى تبني خطاب الهوية الوطنية ، مما نقل البعد الولائي في مجمل الدول الناشئة ، من الولائية القبلية أو العشائرية أو الطائفية أو الجهوية ، إلى البعد الوطني ، وهكذا راح يدور التعريف الفردي للهوية الشخصية حول : اللبنانية ـ السورية ـ العراقية ـ اليمنية ـ المصرية ـ الليبية ـ الجزائرية ـ السودانية ـ … إلخ .
كيف خرجنا من ولاءات الإنقسام ؟
وكيف عدنا إليها؟
معالم الخروج من الولاءات الإنقسامية والتفتيتية على المستوى العربي العام ، كانت ارتسمت بعيد منتصف القرن التاسع عشر بقليل ، حين تم تأسيس ” الجمعية العلمية السورية ” عام 1857 من قبل مثقفين لبنانيين في طليعتهم ناصيف اليازجي وحسين بيهم وبطرس البستاني ومحمد ارسلان وعشرات غيرهم من طوائف ومذاهب شتى .
وجاءت ” الثورة العربية الكبرى ” في عام 1916 بقيادة الشريف الحسين بن علي ومن بعده نجله الملك فيصل ، لتشرع باب المجال الوطني على فضاء مطلق ومفتوح ، ومثلها كانت الثورة الوطنية المصرية بقيادة سعد زغلول عام 1919، ومن نوعها كانت ” ثورة العشرين في العراق ” عام 1920 وهي المؤسسة للروح الوطنية العراقية الحديثة ، ومثلها الأنواع المختلفة من المقاومة الفلسطينية ، حيث الإطار الوطني شكل ظاهرة مميزة في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي ، إذ لم تقف الجذور الطائفية مانعا أو عائقا دون بروز شخصيات فلسطينية كبيرة تولت قيادة فصائل أساسية في المقاومة ، على الرغم من كونها ( الشخصيات) لا تتبع الإنتماء الديني لأغلب السكان ، وهو أمر ، بلا شك ، أسهم إسهاما فاعلا في إنتاج الهوية الوطنية الفلسطينية .
في مرحلة الأربعينيات من القرن العشرين ، وما بعدها ، شهدت الدولة ( الدول) الوطنية العربية ، انحسارا ملحوظا للولائية القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية ، ومقابل ذلك الإنحسار ، اتسعت دائرة الولاء الوطني ومابعده إلى القومي العربي الشامل ، وانعكس ذلك في منتوج خطابي وسياسي وفكري وأدبي وفني غني وغزير وكثيف ، وفي تلك العقود بات النشاط السياسي شأنا وطنيا وعاما ، أو ـ للدقة ـ كاد يتحول إلى شأن وطني وعام .
كيف عدنا إلى ولاءات الإنقسام ؟
وكيف خرجنا من الولاء الوطني ؟
مع رحيل عقد السبعينيات من القرن الماضي برزت ملامح انتكاسة خطيرة لمشروع الدولة الوطنية وتحوله إلى مشروع سلطة حكم وغنيمة ، فقد رافق ذلك ، ذهاب قادة عرب ، نحو إحياء روح القبيلة أو عصبية الطائفة لأجل الإستمرار في مواقع الحكم ، وتمثلت روح الإحياء تلك ، بإغداق مكاسب النفوذ والعطاءات على شيوخ القبائل والطوائف والطرق الدعوية ، بهدف اتخاذها حصون حماية للأنظمة الحاكمة ، وتدل إلى ذلك ، تجارب الحكم في العراق ( صدام حسين ) واليمن ( علي عبد الله صالح ) وليبيا ( معمر القذافي ) والسودان ( جعفر النميري ـ عمر البشير ) ، فيما شكل لبنان نموذجا صارخا في تفكك مشروع الهوية والدولة الوطنية جراء استمرار حروبه وصراعاته الأهلية ، فبعدما كان الأساس البنائي للنظام اللبناني قائما على استدعاء الطوائف إلى الوطن ، غدا السلوك السياسي ناهضا على دعوة الطوائف للخروج من الوطن .

صحيح ، أن عوامل إنعاش القبائلية والطائفية ، أعيد تحريك عصبياتها في عقد السبعينيات الفائت ، وتلك أوزار تتحمل أثقالها الموجة الثالثة من ” القوميين العرب ” ، إلا أنها ظلت مضمرة ومستترة ، ومحظورة من التداول في الخطاب العام ، وجراء ذلك ، نشأت معادلة المزاوجة في ممارسة السلطة بين الشكل والمضمون ، أي بين الظاهر الوطني والباطن القبائلي أو الطائفي .
ماذا عن مآثم القوميين والإسلاميين؟
وماذا عن مآتم القوميين والإسلاميين ؟
في مرحلة استنفاد ” الدولة ـ السلطة القومية ” لقوتها وسطوتها ، كانت تنمو على حواشيها حركات ” الإسلام السياسي ” ، وفي واقع الحال ، أن ” السلطة القومية ” كانت تصطدم حينا بالإسلاميين ، وتتراخى معهم في حين آخر ، وتتصالح وإياهم أو تهادنهم في أحيان ، وفي مجمل الأحايين ، كانت ” السلطة القومية ” تنهل من معين العصبية القبائلية لمواجهة الإسلاميين وعموم المعارضين ، أو تتكىء على نسخ إسلامية مناهضة ، ولكن الأمر المفارق في تجارب ” الإسلام السياسي ” ، إنها نهجت مسالك القوميين بالإستعانة من منهل القبلية ، ومع شيوع التجارب المذكورة ، راحت كتب الأنساب والأصول والبطون والأفخاذ تأخذ مأخذا من الرواج والإنتشار ، حتى بات التعريف بالهوية الشخصية ، يأخذ أولا بالقبيلة أو العشيرة كما هي أحوال العراق وليبيا واليمن ، او بالطائفة كما هي الحالة اللبنانية ، وكذلك الحالة العراقية في بطاقة تعريف ثانية تحل فيها الطائفية بعد القبائلية.
من حقائق الأمور ، أن في الممارسات السياسية لسلطات القوميين العرب في موجتها الثالثة ، بقي التظاهر في تقديم الولاء القبائلي ـ أو الطائفي ـ على الوطني ، مقموعا في الخطاب وحيويا في الفعل ، ومع رواج ممارسات حركات ” الإسلام السياسي ” ، تحلل الخطاب القبائلي ـ الطائفي المقموع من كل قيد وأسر وتكبيل ، وراح الإجهار بالجذور القبلية أو العشائرية يأخذ شكل المفاخر والممادح ، وعلى أرض الفعل السياسي ، لم تدخر حركات ” الإسلام السياسي” جهدا لعقد تحالفات او تفاهمات مع تجمعات قبائلية ـ عشائرية ، أو مواجهة تجمعات مناوئة تحت عناوين مختلفة من الإئتلافات والإتحادات والتوافقات .
هكذا عدنا إلى مضارب القبائل
هكذا عدنا إلى ممالك الطوائف :
في ظل العملية الإحيائية لروح القبيلة ، والتي تعاقب عليها بالتناوب والتتابع ، ” القوميون ” أولا و”الإسلاميون ” ثانيا ، تحولت “عقيدة القبيلة ” إلى واقع يفرض بأسه وسطوته على المشهد السياسي والإجتماعي ، ومعه أعيد تشكيل ” مضارب القبيلة ” ، وعلى نوعها تم إنتاج ” مضارب الطائفة ” ، وباتت الأقطار العربية موزعة بين معاقل القبائل والطوائف ، تماما مثلما كانت مشاهد العرب الأقدمين موزعة ومفتتة بين أحياء ومضارب بني تغلب ، ومضارب وأحياء بني قحطان ، أو ثعلبة والحارثة … إلخ .
إن إحياء فكرة ” المضرب ” و ” الحي ” وما يلازمهما من توصيف ” المعقل ” كدلالة على مظهر القوة والنفوذ ، وما يتخللهما من دلالة اجتماعية قرابية مشددة وتعصبية ، وما يرافقهما من انحسار على الذات وانسحاب إليها ، تمجيدا وتمديحا ، وتقاليدا وأعرافا وثقافة ، أفضى ـ أو يكاد يفضي ـ إلى تحول القبيلة إلى ” وطن قائم ” بذاته و ” دولة قائمة ” بذاتها ، وعلى الشاكلة نفسها ” وطن الطائفة ” أو دولتها ، ذلك ان هذا الإستدعاء للخصوصيات المفرطة والذاتيات المتطرفة ، ينتج ، وهو أنتج بالفعل ، هويات خاصة وضيقة ومتفرقة ، تقوم مقام الهوية الوطنية التي يبدو أنها تتلاشى وتتمزق تحت ضربات وأسواط هويات القبائل والطوائف.
حسنا … الآن … هذا سؤال ملتبس :
هل ندنس التقسيم ونقدس التفتيت ؟
قد يكون مفهوما ، أن تبحث الدول الكبرى عن مصالحها في المشارق والمغارب ، وحين تجد ضالتها في التقسيم والتشطير ، لن تألو وسعا للسير نحوه ، فذلك حق لها ومشروع من وجهة نظرها ، وأما أن يسعى أهل الدار إلى إشعال النار في هوياتهم الوطنية الجامعة ، عبر استدعاء قصيدة القبيلة لتحل مكان النشيد الوطني ، أو رفع راية الطائفة لتحل مكان العلم الوطني ، فأي حق لهم ؟ وأي مشروع ؟ وأي هدف يريدونه ويسعون إليه ؟.
هل يدركون فظاعة إحياء الإنتساب إلى القبيلة والإنسحاب من الوطن ؟.
هل يعرفون خطورة وفداحة التعريف بالبطاقة الطائفية وسماحة وفضيلة التعريف بالبطاقة الوطنية ؟
هل يردون على مشاريع التقسيم بمشاريع التفتيت ؟.
بالفعل :
هل هم يعرفون ويدركون أم أنهم لا يعرفون ولا يدركون ؟.


*كاتب، إعلامي ومحلل سياسي .